منيرة حمزة |
تستنزف ساعات العمل الطويلة في الشمال السوري أيام الشباب وطاقتهم، لتصير لقمتهم على حساب صحتهم وأعمارهم التي يقضون أغلبها في العمل لقاء أجر زهيد.
وبما أن الحياة في المدن المحررة تفرض عليك بصفتك مقيم أو مهجّر أو نازح نمطاً خاصاً من الحياة مرهون بالدفع المالي المستمر (للمسكن، والمأكل، وخدمة الكهرباء الشحيحة، والمياه المتقطعة، وصولاً إلى الإنترنت) فإن العمل لم يعد قرار أو خياراً بل أصبح ضرورة ملحة لتأمين أبسط مقومات الحياة، هذا إن وُجد.
يلجأ الكثير من الشباب “المهجرين” خصوصاً للعمل عند أصحاب المحال، وهنا تبدأ رحلة الاستغلال الكامل للوقت والجهد، مع شحٍ واضح في المردود المادي، وتمسك العامل بأي فرصة عمل أياً كانت دون اعتراض أو امتعاض لقلة الفرص المتاحة.
وهذا ما أكده الشاب “عدنان الشامي” أحد مهجري ريف دمشق بقوله:
“كل الأيام عندي متشابهة لا فرق بين الجمعة وغيره من أيام الأسبوع، وحتى الأعياد تمر عليّ كباقي أيام العمل، فأنا أعمل بشكل يومي أكثر من 12 ساعة طيلة الأسبوع حتى أولادي أغلب الأيام لا أراهم ولا أجلس معهم كما يجب” عملُ عدنان في أحد المطاعم بمدينة إدلب، وطبيعة العمل تفرض عليه دوامًا طويلاً وجهدًا مضاعفًا دون توفر يوم عطلة واحد، مما يضطر وغيره من الشباب للعمل ساعات طويلة، لكسب دخل ما، يعينهم على تأمين حاجاتهم وإن كانت الأجور متدينة لا تقارن مع الوقت والجهد المبذول، ليحصل عدنان على 1700 ليرة يومياً، أي ما يعادل 3$ وهو مبلغ قليل جداً لا يكاد يسد ثغرة في مصروف عائلة صغيرة كعائلة عدنان، ولكن تبقى أفضل من البطالة وقلة الحيلة.
ثم يستأنف عدنان حديثه بغصة: “لا مجال للمساومة على الأجرة في العمل هنا، فهناك مئة عامل غيري مستعدين للعمل مكاني وبأقل من أجرتي، لذلك أعمل دون تذمر أو شكوى؛ لأني حصلت على هذه الفرصة بصعوبة كبيرة”.
هنا يبدو واضحاً استغلال أصحاب العمل للعمال، لاسيما المهجرين لحاجتهم الماسة للعمل واستنزاف طاقاتهم في عمل طويل ومرهق، متذرعين أن أوضاع السوق سيئة ولا يكادون يغطون أجرة العمال والمحلات.
الحرب أجبرت السوريين على خوض معركة ثانية في غمار الحياة، لتأمين لقمة عيشهم، وخلقت الكثافة السكانية الموجودة في محافظة إدلب التي وصلت إلى أربعة مليون نسمة، حسب إحصائيات منسقي الاستجابة، فجوة كبيرة بين فرص العمل المتاحة وبين كثرة اليد العاملة الموجودة والمحتاجة بالفعل للعمل، ولاسيما بعد إيقاف أغلب المساعدات الإنسانية والمعونات الإغاثية التي كانت تُساعد العوائل.
وهكذا أصبحت ظروف العمل أكثر صعوبة وقلت فرصُ إيجاد عمل دائم وتناقصت الأجرة تباعاً وزادت ساعات الدوام لتصل إلى أكثر من 12 ساعة يومياً في بعض المهن والأعمال، وأصبح العامل مضطراً للعمل بالشروط والظروف التي يفرضها صاحب العمل.
وهذا ما يعانيه (أبو غالب) ٤٤عام، أحد مهجري مدينة حمص، عندما عمل عتالاً في إحدى شركات الشحن بحي الصناعة في مدينة إدلب، إذ يروي لصحيفة حبر ظروف عمله الشاقة والمتعبة بقوله: “أعمل منذ سنة ونصف بعد أن تهجرت من مدينة حمص بتحميل البضائع على مدار 12 ساعة يومياً دون استراحة، ونهاية الأسبوع أشتري الأدوية ومسكنات للألم نتيجة حمل الأثقال والوقوف بشكل طويل.”
ثم يذكر أنه كان يعمل قديماً في الدهان ولكن بعد تهجره لمدينة إدلب لم يجد فرصة عمل تناسب خبرته وصنعته الأساسية، فلجأ إلى سوق الأعمال الشاقة كما سماها، وهو العتالة، أي حمل البضائع وتنزيلها ثم نقلها وشحنها، ومثله الكثير ممن تخلى عن مهنته السابقة وعمل بأي مجال يُأمن له دخلاً بسيطًا ليعيش.
أما عن دور المنظمات وهيئات المجتمع المدني في تأمين فرص العمل فقد استطاعت بالفعل خلق فرص عمل لعددٍ كبير من الشباب والشابات، لكنها غير قادرة على استيعاب الكم الهائل من الكوادر الموجودة والعاطلة عن العمل، نتيجة الوجود السكاني الكبير في المنطقة.
وتُعد الوظيفة في منظمات المجتمع المدني من الوظائف المغرية لأي شاب، لاسيما المتعلم صاحب الشهادة العلمية والخبرة السابقة، فراتبها جيد جداً ودوامها مقبول نوعاً ما مقارنة بباقي الأعمال، لكن الصعوبة في الحصول على فرصة عمل فيها، رغم كثرة الإعلانات عن وجود الشواغر.
غير أن الواسطة والمحسوبيات فيها له دور كبير في قبول الشخص أو رفضه، خاصة حين يتم تزكيته من قبل قريب له أو واسطته الموجودة داخل المنظمة.
ويُعدُّ مصطلح التزكية واحداً من المصطلحات الشائعة في طبيعة عمل المنظمات، هذا ما حصل مع الشابة “سارة الحاج” 25 عامًا، والحاصلة على شهادة جامعية في الأدب العربي، تقول لصحيفة حبر: “تقدمت لعدة منظمات بطلب التوظيف بعد طرح إعلان مسابقة لفرص عمل بشروط محددة قد استوفيتها جميعاً، ولكن بعد أسابيع يُرفض الطلب ويتم توظيف غيري ممن هو أقل كفاءة مني وغير مناسب للشاغر المطلوب وأنا اختبرت ذلك شخصياً، وبعد فترة أعرف أن الشخص الناجح تمت تزكيته من قريب له في المنظمة، وهكذا ما إن خلصنا من وساطات النظام ظهرت عندنا وساطات وتزكيات أولي الأمر في المنظمات!.”
سارة واحدة من كثيرات تقدمنَ للعمل داخل المنظمات، ولكنها صدمت بالمحسوبيات والتزكية المتبعة وبذلك يضيع عمر الشباب في البحث عن فرصة عمل تعينهم في حياتهم أو تأمين واسطة ثقيلة تزكيهم وتدعمهم للحصول على وظيفة ما.
وما بين استغلال أرباب العمل للعمال، وبين المحسوبية في بعض المنظمات وقلة فرص العمل بشكل عام وكثرة الكوادر واليد العاملة والحاجة الملحة للعمل في مدينة أنهكتها الحرب ودمرت بُنيتها التحتية من مصانع ومعامل ومشاريع تجارية كانت كفيلة بتشغيل عدد هائل من اليد العاملة والنهوض بها من جديد، يعيش الشباب دون عمل يناسب كفاءتهم ويحترم حقوقهم، ليخضعوا للوضع الراهن ويقبلوا العمل تحت أي ظرف وبأي أجر.