عبير علي حسن |
فلنتفق بدايةً على معنى العُرف: وهو ما تعارفه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك، وهو في الشرع حجة، ويجب العمل به لقوله تعالى: “وامُر بالعُرف”، شريطة ألَّا يخالف نصًّا شرعيًا ثابتًا، وأن يكون مطردًا لا مضطربًا ولا متفاوتًا ولا مختلفًا، فلا يكون عندها حجة واجبة الاتباع.
خريطة العمل بالعُرف اليوم معقدة جدًا، إذ أصبح داخل المجتمع الواحد عدة مجتمعات، وصار لكل فرد مجتمع مصغَّر يعرف بالبيئة المحيطة به، ولكل بيئة من تلك البيئات عاداتها التي شبّت وربّت عليها، والتي لا يستطيع أفرادها التحرك بحرية مطلقة داخلها، إذ تبقى قيود البيئة المحيطة فارضةً عليهم أنماطًا معينة من اللباس مثلاً أو الطعام أو الشراب وغيره، أو قد تتسع لتشمل الزواج أو طريقة الكلام…، وغالبية المعاملات غير المتفق عليها بشكل جماعي وعام.
فقد تجد الفتاة نفسها في بيئة ما عند بلوغها أُجبرت فيها على ترك مدرستها والتزام بيتها إلى أن تتزوج، علمًا أن المجتمع يتيح للفتيات إتمام دراستهنَّ، لكن بيئتها المحيطة لا تسمح لها بذلك.
وقد تجد نفسها ذات حظ أوفر بقليل، فتستطيع متابعة تعليمها إلى أن تدخل الجامعة ثم تتخرج منها، ثم تأخذ شهادتها ليعلِّقها أبوها في المطبخ مانعًا إياها من العمل بها، ومغلِقًا عليها شتى أبواب التوظيف؛ لأن بيئتها تهتم بتحصيل العلم للفتاة، لكنها تعدُّ عملها مهانةً لها وإذلالاً لعائلتها ضمن البيئة المحيطة بهم، رغم أن المجتمع يتيح ذلك، بل ربما يحتاج ويتطلب عمل المرأة في بعض المهن.
الشباب أيضًا ليسوا بحال أفضل، فقد يجبر الشاب على الزواج من قريبته كيلا يأخذها الغريب عنهم وعن بيئتهم، وفي ذلك ظلم لكليهما، أو أن يطلق أحدهم زوجته التي يحب بسبب مشاكل بين عائلتين!!
لا نستطيع القول هنا إنه ظلم من الأهل فحسب، ذلك أن الأهل أنفسهم قد طُبقت عليهم هذه الأعراف وفق منظومة أحكمت قوانينها عليهم، وقلَّ من يغادرها بسلام دون أن تطاله الاتهامات والإهانات.
وتلك المنظومة فهمت الناس العمل بالأعراف تفصيلاً على مقاساتها، فما رضيت بها واستحسنته أدرجته أعرافها، وما رفضته ولم تقبل به أبعدته عنها دون الاحتكام إلى رأي الشارع أو الاستئناس بأقوال العلماء والفقهاء فيما استجد من مسائل الناس وقضاياهم، فالأسهل والأسرع أن يطبقوا أعرافهم متسلحين بشرعية العُرف وحجية العمل به دون دراية وفهم لما يصلح أن يتبع من العُرف لموافقته مقاصد الشريعة وما لا يصلح منه لمخالفتها، وذلك لإلجام أي صوت ينادي بالخروج عنه.
(هيك جرت العادة… أن تفعل كذا، أو لا تفعل) تلك الجملة التي تسمعها عندما تريد البدء بخطوة غير مسبوقة، ويصعب النقاش فيما بعدُ، إن لم يكن للشرع رأي حاسم في المسألة ومشهور أيضًا، ويذهب الناس فيما اختلفوا فيه بقياساتهم الخاصة، فيحللون ويحرمون بحسب ما يناسبهم، ويجبرون غيرهم على المباح من أمرهم، دون النظر إلى المباح من أمر غيرهم.
قد يرى البعض (ممَّن جرت عندهم العادة) أن الدين لا يحرم زواج الأقارب، فيقف عند هذه النقطة أن الأمر حلال، فيأمر بالعُرف دون الأخذ برأي طرفي عقد الزواج فيتسبب لاحقً بمشاكل أسرية أو صحية ووراثية أو نفسية، ويقع الظلم الأكبر بحق الطرفين، وهنا تكمن حرمانيه تطبيق هذا العُرف، لمخالفته مقاصد الشريعة من كل النواحي في الحفاظ على حياة النفس والغير ما أمكن.
إذًا متى يكون العُرف حلالاً ومتى يكون حرامًا إن سكت عنه الشرع ولم يصرح به بنص ثابت؟
الأمر هنا بسيط، وذلك بالنظر إلى حكم ما يأتي من مسائل متفرعة من وراء العُرف الأصل، فإن كان هناك أي ضرر أو أذية أو مخالفة نص شرعي في التفاصيل، أو اعتداء على حقوق، فلا يُعمل به، وإن كان سائدًا والناس ترضى به حياءً، أو استسلامًا…، وإن لم يتسبب بأذية أو مشكلة أو يعتدي على الحقوق، فيدخل ضمن الأمر الوارد في الآية الكريمة.
العبرة إذًا بالنظر إلى ما يخدم الناس ويلبي متطلباتهم ويراعي حقوقهم، ولا يخالف في أي جزء منه الشرع الصريح، ولا يجبر أيَّ أحدٍ على التنازل عن حقٍ له، والعُرف لا يطبق بالجملة على كل أبناء المجتمع أو البيئة أو حتى الأسرة، بل تُدرس أحوال الناس وتُراعى ظروفهم وتُقدَّم مصالحهم على أي عُرف يُلحق بهم الضرر، حيث لا ضرر ولا ضرار، وهذه أشمل وأوسع قاعدة فقهية تندرج تحتها أمور الناس ومعاملاتهم للاحتكام والاستناد إليها فيما أُشكِل عليهم.