ترجمة | ضرار الخضر
لقد أعلن دونالد ترامب انسحاباً فورياً من سورية مما فاجأ الجميع بمن فيهم جنرالاته ودبلوماسييه، وأعادت الإمارات العربية المتحدة الأسبوع الماضي فتح سفارتها في دمشق التي كانت مغلقة كجزء من الحملة الدولية للضغط على النظام عام 2011، وكذلك فعلت البحرين والعديد من البلدان الأخرى، بما فيها الكويت التي من المتوقع أن تستأنف علاقاتها من النظام السنة القادمة, كما يتوقع أن تعيد جامعة الدول العربية اعترافها بعضوية سورية بعد سبع سنوات من طردها.
وتأتي هذه التطورات بعد خمسة شهور على أكبر تقدم للأسد على المعارضة منذ اندلاع الثورة عام 2011, حيث سيطر على درعا مهد الثورة وهي المعقل الأخير للمعارضة المعتدلة، وباستسلامها ينتهي أي تهديد ضد النظام سياسيا وعسكريا قرب العاصمة. وإذا أخذنا التطورات السياسية والعسكرية معاً على مدى الأعوام الستة الماضية فلن يبقى مجال للشك بأن الأسد أحرز تقدما في الصراع، فالداعمون السابقون للثوار لم يتخلوا عن هدف إسقاط النظام فقط بل هم الآن يريدون التحالف معه إما في السر أو في العلن.
وخارجياً سحق النظام أي معارضة قوية أو شرعية، والفصائل المعارضة تعمل شمال غرب سورية ضمن جيب تحت النفوذ التركي ولن يجدوا على الأغلب داعماً خارجياً، وعلى عكس الرياح الجيوسياسية التي هبت بعد حرب الخليج عام 1990 التي لم تكن مواتية لصدام حسين تهب الرياح الآن بقوة لصالح الأسد.
قرار ترامب الانسحاب هو تغيير جذري في اللعبة، فبعد استسلام المعارضة في الجنوب بقيت منطقتان خارج سيطرة النظام وبقيت كلتاهما تحت حماية قوى أجنبية هما تركيا في الشمال والولايات المتحدة في الجنوب والشرق، ونسّق البلدان العضوان في حلف الناتو مع روسيا في هاتين المنطقتين تجنباً للاحتكاك، مما يعني أن أي تقدم عسكري جديد يجب أن يتم بموافقة موسكو وليس الأسد.
على سبيل المثال روسيا وتركيا اللتان التقى وزراء خارجيتهما ودفاعهما يوم السبت في موسكو لمناقشة سورية تفاوضتا على اتفاق لتجنب هجوم النظام على إدلب في شهر أيلول الماضي ثم حافظتا على الاتفاق رغم فشل أنقرة للوفاء بتعهداتها لإخراج المتشددين خارج المقاطعة التي يسيطر عليها الثوار.
واعتبارا من شهر أيلول كثّفت الولايات المتحدة جهودها لمنع النظام من التمدد شرقا، ورأت دمشق وداعموها في إيران في هذه المناطق ملاذات للقوات المعادية حيث يمكن أن تحصّن مواقعها ثم تتحول مهمتها لقتال النظام والمجموعات الإيرانية الداعمة له. لكن رغم وجود تنسيق بين روسيا والولايات المتحدة وتركيا لم يكن لدى دمشق وطهران الكثير من الخيارات لكنهما تبعتا روسيا.
قرار ترامب المفاجئ أنهى المشكلة فالأسد وإيران لم يعودا يواجهان تهديدا من الوجود الأمريكي غير محدود الأجل في الشرق السوري، ما يحدث لاحقاً عقب الخروج الأمريكي سيعتمد إلى حد بعيد على المفاوضات بين الروس والقوى التي تتصور موسكو أنههم حلفاء محتملون وليس خصوم أي تركيا والميليشيات الكردية.
تركيا قلقة من سيطرة مليشيات واي بي جي على حدودها، بينما الواي بي جي قلقة من تكرار الاتفاق التركي الروسي لاحتلال منطقة عفرين في شهر آذار الماضي. والأسبوع الماضي ناشد المقاتلون الأكراد نظام الأسد لمساعدتهم في وجه الهجوم التركي عقب الانسحاب الامريكي، ويوم الجمعة وصلت قوات سورية إلى تخوم منبج البلدة العربية بغالبيتها التي تقع غرب نهر الفرات.
التنسيق الروسي مع تركيا والولايات المتحدة كان جزءا من لعبة موسكو طويلة الأمد، وهي مختلفة عن خطة حليف الأسد الآخر؛ إيران.
كانت السياسة الروسية قائمة على فرض الاعتراف الدبلوماسي بنظام الاسد مع انحسار الحرب، ونجحت موسكو في هذا إلى درجة كبيرة مع تركيا منذ صيف عام 2016 عندما ركّزت أنقرة جهودها على منع حزب الواي بي جي من بناء دويلة داخل سورية، حيث عملت الدولتان معاً من خلال ما يسمى عملية أستانا في كازخستان لخفض تصعيد القتال وتهدئة مخاوف تركيا، كما سعت روسيا لإقناع واشنطن بمزايا العملية السياسة التي تركّز على إجراء انتخابات وتعديلات دستورية.
لطالما طرحت روسيا نفسها كمكافئ لإيران في سورية كطريقة لإقناع الولايات المتحدة وإسرائيل والأنظمة العربية، والفكرة السائدة في الغرب والعواصم العربية هي أن روسيا وإيران حليفان قويان، لكن رؤيتهما للصراع مختلفتان، ففي الوقت الذي تحاول فيه روسيا تقوية نظام الأسد بيروقراطيا وعسكريا وأمنيا تحاول إيران تشكيل ميليشيا موالية لها على غرار تلك التي شكّلتها في العراق.
في الأسابيع الماضية توحّد الروس والإيرانيون والسوريون في جبهة دبلوماسية وعسكرية، فمع تسليم ترامب سورية لروسيا باتت عملية السلام التي تراعاها الأمم المتحدة في جنيف واهية وقليلة الأهمية ولا تحظى بالرعاية الاوروبية، وما بدا على أنه تصميم أمريكي للحد من النفوذ الإيراني من سورية انهار بلمح البصر، والمزيد من البلدان ترى الأسد الحصن المحتمل ضد الهيمنة الإيرانية المتزايدة في المنطقة.
ونجحت روسيا بإقناع بلدان مثل الإمارات بمنطق أن نظاما قويا في دمشق سيخفف الحاجة الى إيران وبالتالي سيقلل من قبضتها عليه, إذ يذهب التفكير الى أن النظام سيستعيد استقلاله كما كان قبل عام 2011 إن أصبح قويا كفاية.
وفي 2016 اقترحت الامارات تطبيع العلاقات مع دمشق كجزء من خطة إبعاد الأسد عن إيران لكن ترامب احتقر الفكرة، لكن بداية هذه السنة بدأ مسؤولون إماراتيون رفيعون بالجهر بفكرة إعادة العلاقات مع الاسد مشجعين حلفائهم السعوديين والبحرينيين على فعل المثل.
ثم تغيرت طبيعة الصراع دراميا مع توظيف العواصم العربية المؤثرة نفوذها لتمكين النظام لاستعادة السيطرة على سورية، الدول العربية التي موّلت المعارضة ذات يوم ضد نظام الأسد تعمل الآن جاهدة لتقوّيه على أمل أن يصبح أقل موثوقية في نظر خصومهم.
المسؤولون الأتراك أيضا عبروا عن ترحيبهم بتولي النظام السيطرة على المناطق التي تسيطر عليها ميليشيات واي بي جي إن تضمّن هذا إخراجا تاما للواي بي جي من هذه المناطق، وقال الرئيس التركي رجب طيب اردوغان يوم الجمعة إن تركيا “لا مصلحة لها في السيطرة على منبج إن غادرها إرهابيو واي بي جي”.
وبعيدا عن المخاوف المتعلقة بإيران وتركيا فالتغيرات الجيوسياسية العاصفة الاخيرة في المنطقة تحبّذ استمرار الأسد، حيث أن المحور المعادي للثورات الذي تقوده الإمارات والعربية السعودية والبحرين ومصر يرى انتصاره كجزء من جهودهم لعكس تراث الثورات الشعبية منذ سنة 2011 والرجوع الى الحكم الاستبدادي في جيع أنحاء الشرق الأوسط الكبير، وبالرغم من أن الإمارات تبرر تحركها الدبلوماسي على أنه وسيلة لمواجهة إيران فالمحرّك الحقيقي له في سورية – كما في ليبيا ومصر- هو إعادة الوضع الى ما كان عليه في السابق.
وهذا يعني أن الأسد لن يواجه العزلة التي تعرّض لها صدام حسين في التسعينيات، فالأردن كانت قد فتحت حدودها مع سورية مما يعني أن لدمشق علاقات تجارية حاليا مع الجيران باستثناء تركيا.
لدى الأسد وداعميه تحدٍ حقيقي واحد: كيف يعيدون العلاقات مع تركيا، فأنقرة تريد أن ترى نهاية لسيطرة الواي بي جي على المناطق الحدودية، لكن دعم تركيا في مواجهة الواي بي جي -القوة الكبيرة المهيمنة على الشمال السوري- قد يؤدي الى تجدد القتال بين الواي بي جي والنظام.
وفشل روسيا في إعادة العلاقات مع تركيا قد يدمر تفاهمها مع أنقرة حول سورية ويؤدي الى استئناف العنف، خصوصا بعد فرض الأتراك نفوذهم القوي على التحالف المحلي مع المعارضة في الشمال السوري. العلاقات الروسية التركية نشأت في البداية كمعارضة للسياسة الأمريكية في سورية، ومع انهيار هذه السياسة قد تجد روسيا وتركيا نفسيهما على مع موسكو ودمشق لتوسيع النفوذ في المناطق التي كانت تحت حماية واشنطن.
المصدر | صحيفة الغارديان
الكاتب حسان حسان، المؤلف المساعد لكتاب: الدولة الاسلامية في العراق والشام، داخل جيش الرعب، وزميل مساعد في معهد التحرير لسياسة الشرق الاوسط في واشنطن.