يحدث أن تضع رأسك على وسادتك، وأنت لا تفكر بطعام غدٍ الذي لا تملكه، ولا بأولادك الحفاة العراة الجياع، ولا بزوجتك التي أنهكها برد الشتاء وسواد الفقر وبؤس كوابيس الثكل والرمل، ولا حتى بالموت الذي يجثم على سماء هذه الأرض فلا يغادرها حيناً إلا وقد عاد بفيض دماء لا ينتهي، أو ريح صرصر عاتية تجعل المؤمنين صرعى كأنهم أعجاز كفرٍ خاوية، وقد سلط الله الاختناق فتنة للمحيا، وقبلةً للممات.
يحدث أن تخاف الاستيقاظ على أنواعٍ جديدة من القهر لم تعهدها، وعذابات لم يعرفها جسدك النحيل الذي التصق فيه العظم بالجلد، وذاب اللحم الذي تتنفسه بما بقي لديك في انتظار الفرج موتاً أو حريةً كما يقولون.
يحدث أنك تخاف تقطيع أوصالك بغارة مجنونة، أو نزيف أطفالك أمامك وقد أصابتهم عين القدر، أو حملَ بعض أشلاء من تحب، وبعضها الآخر مايزال يتنفس نتن الحياة وجبن القبيلة وضعف الأمة، وخذلان من يدّعون أنهم أخوتك، ويتفرجون عليك أسفاً، أو يعددون خيارات قهرك وعذابك ليعرفوا مقدار عجزك أو عزيمتك.
يحدث أنه قدرٌ أن تعيش هاهنا، في هذه البقعة المحاصرة قرب مدينة يقال لها دمشق، ليتندر المهزومون بقرب انتصارك، وقد وضعوا أيديهم تحت رؤوسهم ذاهلين، ينتظرون المعجزة، وقد أدُّوا ما عليهم دعاءً أو بكاءً، ليفرحوا ببطولة المصادفة، ويفخروا بثقتهم بعزيمتك، وقد شغلتهم مرارة الغربة وألم البعد عن تجرع بعض ما لديك من نعماء الوطن وأجر الجهاد.
يحدث أنك قضيت سبع أعوام في استشهادك العظيم، ولم تمت، صحيحٌ أنك لا تبصر إلا الدماء والأكفان والخراب، ولكنك تشبه الأحياء لم تكتب لك راحة الموت بعد، تُعلق الأمل تميمة على باب الدار، يقرعها الفقراء مثلك، يمسك بك الوطن كدمية بين ذراعيه، لا أنت قادر على تركه، ولا طفولته ترضى أن ترميك بعيداً لتمارس آلام الحنين كغيرك.
يحدث أن تربكك الخرائط، وتخيفك نشرات الأخبار، وهم يتفاوضون على مصيرك قتلاً أو قتلاً، فالموت شرف عظيم، وترفٌ عليهم أن يحسنوا اختيار نوعه لكيلا يفسدوا عليك آخرتك، كما أفسدت دنياك بضجيجك وحلم حريتك، ووهم كرامتك.
تبحث عن بقعة للنور فلا ترى إلا شرارات الشظايا، وبريق الصواريخ، وضوء النار التي اشتعلت في منزل جارك فركضت تطلب عندها بعض الدفء والسكينة، تغمض عينيك وقد تعودت كلَّ شيء، تحلم ببعض الخبز والسكر كجنَّة عرضها السموات والأرض أعدّت للصابرين.
المدير العام | أحمد وديع العبسي