علي سندة |
العنوان السابق ليس قصة خيالية كُتبت للأطفال هدفها إدخال القيم إلى نفوسهم مع التسلية والمرح، إنما حقيقة جرت أمامي مسرحها مطعم الفروج المشوي، وبطلتها فتاة شقراء لم تتجاوز العاشرة حسب تقديري، لكنها كانت ممثلة محترفة وذكية.
لم يكن شكلها يُوحي بأي شيء غير طبيعي، شعرها الأشقر منسدل على كتفيها، ومشيتها وحركة يديها طبيعيتين، كانت ترتدي سُترة بيضاء لا بأس بها، وبنطال (جينز) يوحي من البعيد أنه جيد، كل تلك الصفات رأيتها أثناء دخولها عتبة المطعم وأنا جالس فيه أنتظر وصول وجبة الطعام التي طلبتها، لم يخطر ببالي وِفق تلك المشاهدات الأولية أثناء دخول تلك الفتاة للمطعم أنها متسولة إلا عندما وصلت إلى صندوق المحاسبة وبدأت تستجدي المحاسب والناس الواقفين هناك فلم يعطها أحد شيئًا ، إذ خلتها أن أهلها أرسلوها لتشتري وجبة ما، هنا أمعنت النظر فيها فوجدت آثار الأتربة على بنطالها ربما نتيجة جلوسها على الأرصفة، ثم بدأت تجول بعينيها البريئتين كل الطاولات كأنها تدرس وجه وردة فعل من ستذهب إليه وتسأله، فلم يكن مني إلا أن بدأت أهيئ نفسي فيما لو وقع الاختيار عليَّ، علمًا أنني أعتبر مساعدة هؤلاء جزءًا من التشجيع على التسول واعتبره مصلحة ضحيتها الأطفال بالدرجة الأولى، لكنني قلت في نفسي لست مستعدًا للنقاش مع تلك الطفلة وإلحاحها حين وصولها إليَّ وأنا أتحضر لتناول الوجبة التي لمَّا تجهز بعد، وفي لحظتها ناداني المحاسب قائلاً: “الوجبة جاهزة تفضل” قمت من أمام الطاولة وذهبت لاستلامها وكُلي هموم بأن تأتي الفتاة إليَّ وأنا أتناول وجبة الدجاج التي طلبتها وتسألني المساعدة بعبارات التسول التي أكره سماعها وتؤثر بي في الوقت نفسه عندها سأتألم كثيرًا.
كانت الأفكار تدور في رأسي مسرعة، فاتخذت قرارًا فيما لو جاءتني إلى الطاولة، بأن أطلب لها وجبة دجاج مشوي وأدفع ثمنها وتأخذ الوجبة معها إلى البيت لتأكل وتطعم أهلها رغم أني لست مقتنعًا بالحل لنظرتي عن التسول، لكن موقف الأكل والتسول بآن واحد أشد صعوبة بالنسبة إليَّ فضلاً عن التألم لحال الفتاة المتسولة. أخذت وجبتي من أمام مكان التحضير، وأنا ذاهب إلى طاولتي رأيت الفتاة تُمسك كيسًا أبيض اللون تُلوح به فرحةً وتمشي على مهلها ثم خرجت من المطعم بكل هدوء وانسيابية، وبعد دقيقة تقريبًا تفقَّد المحاسب (الفروجة المشوية) التي وضعها أمامه على الطاولة لتسليمها للزبون فلم يجدها، فتذكر الفتاة وأرسل من يتعقبها لاستردادها لكن دون جدوى، وبدأ يلوم العاملين ثم أخذ حسبه الله وتابع عمله.
لم يخطر ببالي ولو لوهلة أن الفتاة سرقت؛ لأن الوضعية التي خرجت بها وتبسمها بوجهي حين رأيتها تحمل الكيس وتلوِّح به وسط انشغال المحاسب بالزبائن حوله وانشغال الموجودين على الطاولات مع بعضهم بالأحاديث الجانبية، كلها أسباب استغلتها تلك الطفلة لتستل الكيس وتخرج به بكل أريحية، عندها أدركت كم هي ذكية استطاعت الخروج بصحبة الفروجة بسلام!
تلك القصة تُعدُّ من أحد كوارث التسول وأخطرها خاصة بالنسبة إلى الأطفال ألا وهو التحول من التسول إلى السرقة، فالتسول باختصار يتطور إلى السرقة ولا يتوقف عند حدِّ مسأَلة الناس واستجداء المال منهم، فالطفلة التي أوردتّ قصتها ما كانت تجرؤ على فعلتها لولا وجود تجارب سابقة واستغلالها الموقف وتحضيرها لأجوبة جاهزة فيما لو كُشف أمرها من قبيل “والله ياعمو جوعانين وغيرها..”
ربما تكون فعلاً جائعة ولم تتناول وأهلها الفروج المشوي منذ زمن، لكن الغاية لا تُبرر الوسيلة، وهذه الطفلة واحدة من آلاف الأطفال المتسولين لكنها وقعت في السرقة ربما دون أن تعرف أنها سرقت وربما تعرف وهناك من علَّمها، واحتمال أنها يتيمة وتُعيل إخوة أصغر منها، وربما أرسلها أهلها للتسول وتعلمت السرقة أثناء التسول ممَّن تراهم يتسولون مثلها، فكم مثل تلك الفتاة! ومن لإنقاذ مثل هؤلاء!