لم يكن العمل السياسي يوماً إلا ضمن الممرات الضيقة والمناطق الوعرة، أما في الساحات الواسعة فلا أظن أن السياسة يمكن أن تلعب دور فعالًا، أو نشعر بالاحتياج إليها، إنها سمسرة بأحسن أحوالها؛ لأن المصالح ونقاط القوة والضعف تكون واضحة وكفيلة بإنجاز جميع الصفقات، ويصبح الدور السياسي إن وجد دور تزيينيًا لا أكثر، والسياسيون المحترفون لا يعتبرون أنفسهم يقومون بعمل في ذلك الوقت، إنما يحظون بنزهة أو استجمام يروضون فيه ملكاتهم.
العمل السياسي الحقيقي هو عمل داخل العقبات لا خارجها، هو فن الخروج من عنق الزجاجة لا كسرها، أمّا ألَّا نعرف أن نشتغل سياسة إلا بالاستسلام وتقديم التنازلات دون مكاسب فهو أمر آخر، إننا لا نقوم عادة بممارسة فعل سياسي، إنما نكون جزءًا من الأدوات التي يفعل بها الآخرون سياستهم.
نحن بحاجة إلى سياسيين لا يفكرون بأن السياسة هي فن الممكن، إنما يتقنون فنون غير الممكن دون أن نتخلى عن الساحة السياسية.
أعتقد أنّ شعبنا يحتاج إلى فعل سياسي حقيقي يقوده لتحقيق استقرار على طريق النصر، ولا يحتاج سوى إعادة إحياء فعل ثوري آخر يُعيد إلينا مزيجًا من الذكريات النقية والمشوهة والأفعال التي التصقت بالثورة رغمًا عن أصحابها، فعلٌ أصبح للأسف غير واضح البنى ولا الأهداف ولا حتى الشعارات، وصار متعدد المشارب والقيم والفهم والمرجعيات. اليوم الفعل الثوري هو استمرار في خلق الفوضى وتصدير فئة لا تعرف ماذا تريد ولا ما يجب أن تكسبه، ولم تعد تحظى بشعبية إلا من خلال إعجاب الثوار أنفسهم بأنفسهم، أو الاحتشاد ضد مجزرة أو احتمال موت كبير
لا يعني هذا أننا نريد إلغاء الثورة أو القضاء عليها لصالح العمل السياسي، إننا فقط نريد إنضاجها، أن ننهي مراهقتها المزمنة التي تأخذنا بحماسها إلى حيث لا تدري هي، ولا نعرف إلى أين!
هناك بعض المظاهر الثورية التي نحتاج بقاءها كمؤكدات على استمرار النضال، ولكن لا نحتاج في الوقت الحالي إلى إعادة إشعال الثورة كما نردد بحماس دائمًا، إنما بحاجة إلى العمل على توحيد الأهداف والغايات ونبذ الاختلاف وتجاوز الاصطفاف حتى لا نُشعل دون أن ندري ثورات متلاطمة تنهي بعضها كالرياح قبل أن يقضي النظام على آخرها ترنحاً.
المدير العام | أحمد وديع العبسي