ترجمة: ضرار الخضر
رجل دين محافظ قريب من جماعات المعارضة السورية قال لي: “ثمة مشكلات كبيرة الآن، فالقاعدة تحاول إيجاد فصيل جديد موالٍ لها في إدلب، لكن الهيئة تمنع ذلك”، وبناءً على وصف رجل الدين واسع النفوذ هذا وأربع شخصيات أخرى وثيقة الصلة بالجماعات الإسلامية الأخرى: فقيادة القاعدة المركزية مستاءة على نحو متزايد من فرعها القديم في سوريا -الذي بات اسمه الآن هيئة تحرير الشام (هيئة تحرير الشام) بعد إعادة تصنيف جديدة في كانون الثاني 2017- وتسعى الآن بدأب لبناء حركة منافسة أكثر ولاءً للقاعدة العابرة للحدود ونظرتها الاستراتيجية، وقال لي قائد عسكري إسلامي بارز: “القاعدة تختلف بشدة مع رؤية هيئة تحرير الشام”.
مصادري الخمسة اشترطوا عليّ عدم الكشف عن هوياتهم نظراً لحساسية الموضوع ولازدياد حالات الاغتيال والتهديد في الشمال السوري.
وحسب هذه المصادر فقيادة القاعدة المركزية خارج سوريا لم تعد تعتبر هيئة تحرير الشام بمثابة فرع رسمي لها لسببين: فبناءً على معايير القاعدة فهيئة تحرير الشام قبلت مستويات غير كافية من النقاء في بنيتها، من حيث الخطاب والرؤيا والتدريب، ولأن قيادتها المركزية نكثت بالقَسَمَ الديني بمبايعة قائد القاعدة أيمن الظواهري، وتعود جذور هذا الصراع في الاستراتيجيات إلى شهر تموز من عام 2016 على الأقل، عندما أعلن فرع القاعدة في سوريا الذي كان يعرف باسم جبهة النصرة تغيير اسمه وانتمائه ليصبح فتح الشام وادعى قطع علاقاته الخارجية بالقاعدة، ووافق أبو الخير المصري نائب الظواهري -الذي كان مقيماً في سوريا- وأعلن مباركته لهذه الخطوة وقتها.
لكن عدة شخصيات وثيقة الصلة بالقاعدة صرّحت علناً أن الظواهري لم تتم استشارته، وعندما اكتشف أن فرعه السوري أصبح جبهة فتح الشام وقطع صلته بالقاعدة، رفض التغيير والانشقاق المترتب عليه، قال لي رجل دين إسلامي بارز يلتقي قيادة هيئة تحرير الشام باستمرار: “الظواهري لا يتواصل مباشرة مع الجولاني (قائد جبهة النصرة) منذ أواخر سنة 2014 فكل شيء تم من خلال وسطاء، وهذه مشكلة كبيرة؛ فالجولاني اتخذ قراراته بمفرده عدة مرات دون إذن الظواهري، وهذه ليست أول مشكلة لكنها الأهم”.
وفي تصريح صوتي للظواهري في 23 نيسان كان موجهاً للمقاتلين في سوريا وجّه تحذيراً صريحاً ضد السعي للتركيز على الأجندة السورية –وهو التصور التي تحولت به النصرة إلى جبهة فتح الشام ومن ثم هيئة تحرير الشام- ودعاهم لتصحيح أخطائهم ولإعادة تبني أجندات عالمية لضمان النصر، لم يكن صعباً رؤية هذا كرفض واضح لجبهة فتح الشام والآن هيئة تحرير الشام التي تحاول تقديم نفسها كحركة إسلامية تسعى لأهداف سورية فقط.
قال الظواهري: “البعض يتمنى أن يخدعكم عن طريق بيعكم الخرافة بأنكم إن غيرتم جهادكم إلى جهاد مقتصر على سوريا، فستكون قيادة الإجرام العالمي سعيدة بكم، النقد الذاتي وتصحيح الأخطاء هي الخطوة الأولى في طريق النصر”.
ليس سراً أن تغيير جبهة النصرة إلى جبهة فتح الشام لم يلاق رواجاً كبيراً في صفوف كبار القادة والخط المتشدد، في الحقيقة الأشخاص الذين كانوا في غرفة صنع القرار أخبروني في ذلك الوقت: في الانتخابات الأخيرة ضمن مجلس الشورى لجبهة النصرة صوّتت نحو نصف القيادة بـ “لا”، ونحو عشرة من كبار القادة إما غادروا المجلس نهائياً أو رفضوا تولي مناصب أو سلطة ضمن جبهة فتح الشام، ومنذ ذاك الوقت أعلنت شخصيات رئيسية عديدة انشقاقها وأعلنوا معارضتهم لإعادة التصنيف على اعتبار أنها تمثّل منحدراً زلقاً أو بداية لتآكل نقاء الحركة من أجل دعم المعارضة السورية.
العديد من هذه الشخصيات -كما أخبروني- مشمولون الآن بمحاولات القاعدة بناء فصيل جديد لها في سوريا، ومنهم شخصيات جهادية قديمة مثل لياد الطوباسي (أبو جليبيب) وسامي الأورايدي الذي بقي لمدة طويلة مساعداً لمؤسس داعش الأول أبو مصعب الزرقاوي ومن جاء بعده، رجل الدين الأردني المقرّب من أبي محمد المقدسي؛ رجل الدين المقرب من أيديولوجيا القاعدة، وأبو قتادة الفلسطيني، وقال لي أحد قادة أحرار الشام “هؤلاء بعض أهم القادة، وهم يلتقون بمقاتلين منشقين عن أحرار الشام ليكسبوا ثقتهم، وهذا بالضبط ما فعلته داعش قبل الوصول إلى سوريا، في محاولة منها تقويض منافسهم لكسب القوة”.
ليس كل شيء سهلاً
خسرت القاعدة فرعاً لها ضمن الصراع في سوريا (داعش في 2013)، وخسارة الثاني ستكون مؤذية للغاية لموقفها الجهادي العالمي، فكيف وصلت إلى هذه الحالة؟
منذ سنتين، من يكن من المبالغ فيه القول إن جبهة النصرة كانت أكثر فروع القاعدة نجاحاً، وفي منتصف 2015 بنت الجماعة قدرات قتالية عالية بنحو 8000 إلى 10000 مقاتل منتشرين عبر سوريا ومنذ أواخر 2012 باتت قوة رائدة في كل انتصارات المعارضة الرئيسية ضد نظام الأسد، كما أنها في النصف الأول من سنة 2015 قادت سلسلة من الانتصارات السريعة في منطقة شمال غرب سوريا وبدت وكأنها تتمتع بقبول واسع في أوساط المعارضة الأوسع، فالنجاح العسكري للجماعة ترافق بضبط النفس النسبي في سلوك المتطرفين –على الأقل بالمقارنة مع التنظيمات الأخرى في أماكن أخرى من العالم- ووضع القاعدة في موقع الصدارة لإدارة نوع من المشروع الجهادي المستديم في سوريا، وفي الوقت الذي كانت فيه قيادة القاعدة المركزية في باكستان وأفغانستان تحت الضغط ومختفية، فإن نجاح جبهة النصرة في سوريا كان يبشّر بفرصة لا تقدّر بثمن لإعادة نشر وتنشيط جزء كبير للقيادة العالمية للقاعدة على الأراضي السورية في موقع مثالي على امتداد الحدود الأوروبية.
اعتباراً من أواخر 2015 وجدت جبهة النصرة نفسها بمواجهة عدد كبير من التحديات المترابطة تهدد بإبطاء أو حتى عكس نجاحها المنهجي الذي استمر فترة طويلة، وأهم تأثير من هذه التحديات كان التطورات داخل جبهة النصرة نفسها وداخل المعارضة السياسية والمسلحة وبين أصحاب المصلحة في الصراع السوري، كل هذه العوامل وغيرها فرضت تعقيدات على قدرة القاعدة للحفاظ على طبيعة مسارها واستراتيجيتها طويلة الأمد في سوريا، كما تبرز مشكلة إلى أي مدى يمكن لجبهة النصرة استخدام البراغماتية المحسوبة لكسب أكبر قدر ممكن من طيف المعارضة الأوسع، سمّت القاعدة هذه الفترة بتوحيد الصفوف، وبكلمات أخرى كانت القاعدة تأمل أن يتمكن فرعها في النهاية من بناء ما يكفي من الثقة والمصداقية داخل سورية بحيث يتوحد معظم الناس تحت رايتها على الأقل في حيّز جغرافي واحد.
ومع اكتساب جبهة النصرة نفوذاً عسكرياً أوسع على أرض المعركة فقد وجدت نفسها تكافح لبناء طيف واسع سياسياً واجتماعياً وسط مجتمعات المعارضة، لكن بعد أن أعلنت هويتها كفرع لتنظيم القاعدة منذ نزاعها مع داعش في نيسان 2013 كان من الواضح أنها باتت مثيرة للجدال حول طبيعتها الوطنية، فتصنيف القاعدة كحركة متشددة وصِلَةُ القاعدة المعروفة بها كان عاملاً في منع التقدم نحو توحيد الصفوف.
وعندما بدأ عدد من قادة جبهة النصرة الدينيون والعديد من رجال الدين المقيمين في تركيا عملية تشاورية قصيرة مع شخصيات إسلامية مستقلة منتصف عام 2016 حول آفاق إقامة إمارة إسلامية شمال سوريا، أجمعت الجماعة تقريباً على الرفض، وكان هذا بمثابة تذكير صارخ بالتقدم المحدود في محاولة تحويل الدوائر الإسلامية غير النصرة إلى اعتناق رؤية جبهة النصرة في سوريا، وكان سبب الرفض الرئيسي هو أن سبب إنشاء الإمارة يعود إلى الأجندة الدولية للقاعدة أكثر من مصالح المعارضة السورية.
الجولاني يقامر ويعلن فك الارتباط الأول:
وأدى التحرك القوي الذي شهدته تلك المرحلة القصيرة من المشاورات إلى مزيد من التأمل على الأقل في صفوف الذين يعرفون في جبهة النصرة بالحمائم، وهؤلاء كانوا رجالاً مثل نائب قائد النصرة السابق أبو ماريا القحطاني وأمير حلب عبد الله السندي بالإضافة إلى العضو المؤسس المطرود من الجبهة حديثاً صالح الحموي الذين كانوا يدفعون باتجاه تبني جبهة النصرة موقفاً وطنياً أكبر، ولاتباع منهج يراعي حساسية المجتمع للفوز بالقلوب والعقول معاً في سوريا.
وفي أواخر حزيران وبدايات شهر تموز 2016 بذلت هذه “الحمائم” جهوداً مكثفة للضغط على مجموعة متنوعة من الشخصيات الإسلامية المستقلة بهدف إجبار الجولاني عن فك الارتباط بالقاعدة وإنهاء علاقات الحركة خارج سوريا، وكجزء من هذه الجهود طلب الحموي والسندي والقحطاني وغيرهم التأييد من أكثر من 3000 من مقاتلي النصرة في الشمال السوري، وأخبرني الحموي منتصف تموز أنهم وجّهوا إنذاراّ أخيراً: “إما فك الارتباط بالقاعدة والاندماج بالفصائل الإسلامية أو مواجهة العزلة اجتماعياً وسياسياً وعسكرياً”.
وعلى الفور أُثير الموضوع في اجتماع لمجلس شورى جبهة النصرة ورغم الرفض الشديد والانقسام التام بنسبة 50% لكل رأي إلا أن الجماعة قررت فك الارتباط بالقاعدة بعد موافقة نائب قائد القاعدة، وهؤلاء الذين قادوا جبهة الضغط اعتبروا موافقة نائب قائد القاعدة بمثابة إذن لهم، ويبدو أن هذا الاعتقاد كان سابقاً لأوانه، لقد كانت هذه الخطوة مقامرة بالنسبة للجولاني؛ فقد كان الهدف من إعادة تسمية الحركة وفك الارتباط هو إقناع المزيد من المعارضة السورية بأن جبهة فتح الشام ينصبُّ اهتمامها على القضية السورية فقط وليس بالمشروع الجهادي العالمي، وعلى الرغم من أن البعض في واشنطن اعتبروه كذلك فلم تكن ثمة أي محاولة لحذف اسم الجماعة من قائمة المنظمات الإرهابية.
وفشلت مقامرة الجولاني؛ فقد انتهت ثلاث محاولات لدمج المعارضة الواسعة تحت شعار توحيد الصفوف إلى الفشل المرير في النصف الثاني من 2016، وفي الحقيقة حتى حركة أحرار الشام السلفية الشريك الأكثر إخلاصاً لجبهة فتح الشام باتت الأكثر تعنتاً في رفضها للاندماج، وانتهت المبادرة الثالثة لتوحيد الصفوف بمرارة شديدة، مع اتهام شخصيات في جبهة فتح الشام لأحرار الشام بأنهم دمية بأيدي القوى الخارجية.
مرحلة الإغواء وفك الارتباط الثاني
كانت الزاوية التركية على الخصوص مهمة، فقد انتقلت تركيا إلى وضع تُولي فيه مصالحها الوطنية أولوية على ما عداها وغالباً على حساب المعارضة السورية، وسقطت حلب بيد قوات نظام الأسد وإيران وروسيا في أواخر كانون الأول سنة 2016، ويعود الفضل في هذا السقوط إلى حدٍ كبير إلى اتفاق تركي مع موسكو، فبعد الاتفاق أوقفت تركيا إمداد المعارضة السورية في حلب في مقابل أخذ الإذن بالتدخل في الريف الشمالي ضد داعش وميليشيات الواي بي جي الكردية، وهذا التدخل التركي –المعروف باسم درع الفرات- نال دعم كل المعارضة السورية في الشمال تقريباً مما ترك جبهة النصرة معزولة بعد أن رفضوا الانخراط في درع الفرات، في الحقيقة عارضت جبهة فتح الشام درع الفرات والجماعات المنخرطة فيها بشدة، وأطلقوا على هذه الجماعات –بمن فيها أحرار الشام- وصف الخطر الكامن على الثورة السورية وتحت هذا الشعار هددوا بمهاجمتها.
ونُفِّذ هذا التهديد في كانون الثاني 2017 عندما بدأت جبهة فتح الشام هجوماً منسقاً على مجموعات مفحوصة أمريكياً وأخرى تدعمها تركيا في إدلب والريف الغربي لحلب، وعند هذه النقطة زاد حضور أعداء الجبهة في المعارضة السورية بزيادة دورهم في درع الفرات وبدأوا بحضور المفاوضات التي ترعاها روسيا في كازاخستان، كما كانت جبهة فتح الشام متخوفة من أن تجبر تركيا جماعات المعارضة على التفكير بالهجوم بدعم خارجي على قواتها في إدلب، وهذه المخاوف لم تكن وهمية بالكامل، ففي أوائل شهر آب سنة 2016 حضرت كل جماعات المعارضة السورية في حماة وإدلب وحلب اجتماعات منتظمة مع المخابرات التركية، والعديد منها ركّز على جدوى تنفيذ عمليات ضد جبهة فتح الشام في إدلب، لقد أخبرني العديد من القادة بهذه الاجتماعات عندما حصلت أواخر سنة 2016.
وبغض النظر فقد زادت هجمات جبهة فتح الشام على المعارضة في الشمال الغربي في شهر كانون الثاني الأمور تعقيداً، فالعديد من المجموعات اختارت الانضمام إلى أحرار الشام لضمان حمايتها، مما زاد عدد الأحرار بثمانية آلاف مقاتل آخر، وضمن هذه الجو المتوتر اشتبكت أحرار الشام مع جبهة فتح الشام مراراً، ومع التهديدات السابقة في عدة مناسبات في السر والعلن لإعلان الحرب ضد جبهة فتح الشام، ومع ارتفاع حدة التوتر أكثر انشق أكثر من 1000 مقاتل وعشرة من القادة من أحرار الشام لينضموا إلى جبهة فتح الشام وبهذه الأعداد الجديدة من المقاتلين وبانضمام أربعة فصائل أخرى أعادت جبهة فتح الشام بناء حركة جهادية جديدة تماماً: باسم هيئة تحرير الشام، وعينت الحركة الجديدة الشخصية القيادية المنشقة عن أحرار الشام هاشم الشيخ (أبو جابر) قائداً جديداً لها.
وهكذا كانت جبهة النصرة مثاراً للجدل على مدى ستة شهور، رغم التغيير السلمي إلى جبهة فتح الشام في تموز سنة 2016 وبعدها التأسيس القوي للكيان الجديد كلياً من خلال عملية الاندماج التي ترافقت بالعنف (في كانون الثاني 2017).
وفي الوقت الذي بقي فيه الظواهري مستبعداً ظاهرياً من خطوة الأولى فإنه لم يفعل أي شيء عندما حدثت الخطوة الثانية، وفي فترة وجيزة توسعت الجماعة التي كانت تُعرَفُ بجبهة النصرة بالحجم وأحكمت قبضتها على المناطق التي تحكمها رغم أن سمعتها تضررت بشدة عند المعارضة السورية، وبتشكيل هيئة تحرير الشام مع التيار المتشدد من العناصر المنشقة من أحرار الشام وأربع جماعات أخرى؛ باتت الجماعة شيئاً آخر مختلفاً تماماً.
ومنذ ذلك الوقت سعت هيئة تحرير الشام لإحياء موقفها العسكري والسياسي، فشكلت مكتباً سياسياً ونفّذت بمفردها عمليات عسكرية عالية المستوى، وكثّفت الجهود في مجال الخدمات والإمداد، وقيل إنها بعثت مبعوثاً إلى قطر لبدء علاقات سياسية.
هذه الخطوات لم تلمّع صورة هيئة تحرير الشام خارج سوريا، لكن رغبتها بالدفاع عن مصالحها وقدراتها العسكرية العليا تأكدت فيما يبدو في موقفها القوي في إدلب، وفي الآونة الأخيرة زادت من الضرائب والرسوم الجمركية، مما يشير إلى أنها تحتاج مزيداً من المال لقاء مشاركتها المتزايدة في الحكم.
نماذج متباينة:
ثمة نتيجتان رئيسيتان في خضم هذا الوضع المعقد، أولاً: إن التحول من جبهة النصرة إلى هيئة تحرير الشام كان مبنياً على افتراض بأن أعمالاً معينة كانت ضرورية للحفاظ على مشروع الجماعة الطويل المدى في الشمال السوري، وعندما تبين أن توحيد الصفوف مع الطيف الأوسع مستحيل، وأن الجغرافيا السياسية في المنطقة تتآمر على المشروع الجهادي في سوريا، شعرت الجماعة بالحاجة لاتخاذ خطوات صارمة لحماية مصالحها. والأهم: لم يؤدِ ظهور هيئة تحرير الشام إلى اعتدال أيديولوجي ملحوظ، رغم أنها أولت القضية السورية الأولوية على ما عداها، وتبقى هيئة تحرير الشام حركة سلفية جهادية ملتزمة، لكنها تسعى علناً لانتهاج استراتيجية تخالف القيادة المركزية للقاعدة، وبالتالي يبدو أن هذه القيادة تخلت عن محاولاتها للسيطرة على هيئة تحرير الشام وبدلاً من ذلك تسعى لتكوين حركة أخرى موالية لها لتكون ملتزمة بأجندة القاعدة التقليدية العابرة للحدود.
قال لي قيادي إسلامي بارز: “الناس الواقعون الآن تحت نفوذ القاعدة متشددون حقاً فهم حقاً لا يريدون العمل مع السوريين لأجل سوريا، لطالما كانت لدينا مشاكل معهم، لكن قوتهم كانت محدودة لأنهم كانوا معزولين ضمن النصرة، أما الآن فإنهم حددوا أولوياتهم الخاصة وثورتنا ليست على رأس تلك الأولويات”.
وبينما لا تزال النتيجة الدقيقة لفك الارتباط غير واضحة فإن هيئة تحرير الشام تبقى بلا شك العامل الأهم، فلديها ما لا يقل عن 14000 مقاتلاً رهن إشارتها مما يجعلها أكبر قوى المعارضة المسلحة في البلاد، إضافةً إلى أن إرادتها القوية التي تجلت بحماية مصالحها أوائل هذه السنة قد تكون ردعت أي أعمال ذات قيمة ضدها في معقلها في إدلب، ويمكن لهيئة تحرير الشام التخلي تماماً عن أي ارتباط لها بالقاعدة وعن أي دعم يأتي منها لأنها ناجحة تماماً دونها، وما لم ينظر المجتمع الدولي في أي مبادرات جدية ترمي إلى عزلها عن بقية المعارضة فيبدو مجتمع إدلب آمناً، وحتى أن هجوماً كبيراً لقوات الأسد المدعومة من روسيا والقوات الموالية لها على منطقة إدلب يمكن أن يفيد هيئة تحرير الشام أكثر من أي من فئات المعارضة الأخرى ففي يد هيئة تحرير الشام جميع الخيوط.
وبناءً على ذلك فإن الاتجاه الثاني هو: أسلوب القاعدة التقليدي العابر للحدود وهو حرب العصابات ضد العدو القريب وفي نفس الوقت التآمر ضد العدو البعيد، ومنذ نجحت هيئة تحرير الشام في سوريا تأثرت القاعدة في شبه الجزيرة العربية وتكررت بشكل واضح في اليمن، وكذلك القاعدة في المغرب الإسلامي وفي مالي كذلك يبدو أن التركيز بات محلياً، في سعي من هذه الفروع للقاعدة للاندماج بشكل نهائي في قضايا الشعوب الأصلية الأوسع، وبينما لا يوجد تأكيد أن تنظيم القاعدة في جزيرة العرب وتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي قد نأيا بنفسيهما عن قيادة القاعدة أو يرفضان الامتثال لأوامرهما، تحمل طبيعة أنشطتهم في ثناياها فروقات في الاستراتيجية مشابهة لتلك بين القاعدة وهيئة تحرير الشام.
ولبعض الوقت يبدو أن الظواهري ونوابه كانوا داعمين لهذا المنهج على المدى القصير، هذا النهج الذي يركز محلياً على بناء مشاريع جهادية دائمة، لكن تصريحات الظواهري وحمزة ابن أسامة بن لادن الأخيرة تشيران أن ذلك الأسلوب العابر للحدود والقوميات يعود مجدداً إلى دوائر القيادة المركزية للقاعدة، وقد يعود هذا إلى التراجع الإقليمي لخلافة داعش في قلبها السوري والعراقي، فيمكن أن تكون هذه محاولة من الظواهري تقديم نفسه كقائد أعلى لحركة الجهاد العالمي.
غير أن الظواهري وقيادة تنظيم القاعدة لديهم خلل كبير في النهاية، فهم مضطرون للعمل مختبئين مما يجعل تواصلهم بالمنتسبين في الخارج ضعيفاً.
نظرة مستقبلية:
يبدو السيناريو الأكثر احتمالاً في المستقبل هو ترسيخ الوضع القائم حالياً حيث تتسع الهوة بين هيئة تحرير الشام والقيادة المركزية للقاعدة، ويمكن لهذه الأخيرة أن تتبنى مجموعات أصغر وأكثر سرية من الجهاديين في الشمال السوري من الذين يلتزمون بحرب العصابات وفي نفس الوقت يخططون لهجمات ضد الغرب، وسيؤدي هذا النهج الى نتائج غير واضحة، فلا هيئة تحرير الشام ولا القاعدة يمكن أن تنظر أي منهما الى الآخر على أنه منافس، فوجود كل منهما يعزز وجود الآخر، وقال لي أحد رجال الدين المقيمين في إدلب: “الآن هيئة تحرير الشام مستعدة للسماح ببعض الحرية للقاعدة في إدلب، بشرط ألا تتدخل القاعدة في شؤون هيئة تحرير الشام، وهذا ما منعه أبو محمد الجولاني لحد الآن، لكنه لم يكن سهلاً، وفي الحقيقة بات أصعب خلال الفترة القريبة الماضية”.
ومع ذلك فقد أوضحت المصادر الخمسة التي تحدثت إليَّ حول هذه القضية بجلاء أن الدائرة الموالية للقاعدة في إدلب تتخذ موقفاً متقلباً تجاه هيئة تحرير الشام، متهمة إياها بخيانة المبادئ الإسلامية الأساسية، والشراكة العلنية مع العدو والتفاوض معه وتحويل الأنظار عنه، وبغض النظر فلا يبدو أن لدى القاعدة ما يكفي من الموارد وهي بغنى عن بدء حالة من العداء النشط مع هيئة تحرير الشام، ومن الأرجح أن تستمر بوضع مسافة بينها وبين هيئة تحرير الشام من خلال الإدانة والنقد وفي نفس الوقت تحاول بناء حركة جهادية ذات إمكانات ذاتية.
سيجعل هذا إدلب والشمال السوري تحت سيطرة فصيلين جهاديين مختلفين ولكن متساويين في التشدد، ويكمن التهديد الحقيقي في أن هيئة تحرير الشام سيكون بمقدورها أن تمنع الجماعات المعتدلة من تقديم بديل للدور الجهادي وأن تهيمن على مسار وتأثير القرارات المصيرية للمعارضة السورية، كما أن نجاحها المتواصل يهدد بتعميم استراتيجيتها الجهادية المحلية على بعض الجهات الفاعلة إقليمياً وعلى السكان، مما قد يحرم الجهات المعتدلة حقاً من الدعم والمصداقية.
وفي نفس الوقت فإن وجود فصيل صغير مختفٍ من تنظيم القاعدة في إدلب –حيث تكون القدرة الدولية على المناورة محدودة للغاية- يمكن أن يشكّل تهديداً أكبر من تلك التي كانت القاعدة تشكّله في أفغانستان حتى الحادي عشر من أيلول.
التهديدان مختلفان بشكل واضح، مما يعني وجوب مواجهتهما بأدوات وأساليب مختلفة، فاستخدام إجراءات مكافحة الإرهاب القتالية فقط ضد عناصر القاعدة في سوريا أو في أي مكان آخر سيكون له تأثير مؤقت، إلا أنها لن تؤدي أبداً الى القضاء عليهم أو إضعافهم، ولذا فإن التهديدين يمثلان أسوء سيناريو بالنسبة إلى صناع السياسة الغربيين، ويستحقان اهتماماً كبيراً جداً.
موقع: معهد ذا ميدل إيست
الكاتب: تشارلز ليستر، باحث بريطاني أمريكي بمركز بروكنجز الدوحة و كبير الزملاء في معهد ذا إيست ميدل.