كثير من النظريات السياسية تحتفي بالقيم وتضعها في مكانة مرموقة ضمن النظرية، سواء كانت تلك القيم (أخلاقية) أم قيم (عملية)، أما في حالة الممارسة السياسية، فتبدو القيم غير واضحة تمامًا أمام المصلحة، فما الذي يحدد العلاقة بين القيم والمصلحة السياسية، ومن يأتي أولاً؟
لفهم ذلك لابدّ بداية من تحديد من أين جاءت القيم، هل جاءت من مرجعيات مصلحية، أم من مبادئ تتعالى على المصالح، ومرجعيات رسالية مؤسسة، وبما أن القيم أفكار بالدرجة الأولى، فهناك نقطة مهمة أخرى تلعب دورًا بارزًا في تحديد كينونتها ومكانتها، تتعلق بفهم القيم وتفسيرها، فالعدالة هي فكرة تتعلق بالأنصاف عمومًا، وهي أن يأخذ كل صاحب حق حقه، لكنها من المنظور السياسي قد تتعلق بالمصلحة العامة للشعب والدولة وخلق الاستقرار مقابل الاقتصاص للمظلومين من الطغاة في مرحلة معينة، وقد يشكل تضارب المصالح العامة والخاصة أساسًا لتقديم المصلحة العامة، وهذا يعني تفسيرًا خاصًا للقيم يتعلق بتقديم المصلحة العامة دائمًا، أو العكس.
وبما أن القيم تخضع لتفسيرات مختلفة بحسب الإيديولوجيا الحاكمة، أو الدستور، فإن المصالح العليا والعامة والخاصة تخضع لدرجة أعلى من التفاوت في الفهم والتفسير، خاصة أنها تتبع مواقف زمانية ومكانية متغيرة وغير ثابتة، ولا توجد لها قوانين حاسمة تحددها، لذلك في كثير من الدول يتم ضبطها بإجراءات قانونية ونصوص دستورية، ويُترَك تقدير الأمور المُستجدّة للمجالس التشريعية في مختلف المنظومات الخاصة والعامة.
مع كل هذا يبقى الاختلاف كبيرًا في حالة الفهم لهذه المتغيرات ومدى التعامل معها ضمن المنظومة القيمية المرجعية للجهة صاحبة الصلاحية، لذلك تحدث الخلافات والانشقاقات في كثير من البنى الصلبة بسبب التباين في فهم المصالح والقيم بين أجزائها.
في النتيجة لا يمكن حسم الصراع بين القيم والمصالح في البنى القيمية؛ لأنها بنى متغيرة؛ ولأن المصالح هي شيء في صلب القيم أحيانًا، وتبدو أنها متنافية معها أحيانًا أخرى، وهذا الفرق خاضع للتفسيرات والنظريات المنهجية.
كذلك من الصعب حسم هذا الصراع في البنى ذات المرجعية المصلحية، فرغم تراجع المنظومة القيمية في تلك البنى عمومًا لصالح المنفعة، تبقى القيم حاضرة في شكل المفاضلة بين المصالح في كثير من الأحيان إذا لم تكن هي أساس التفاضل.
أمّا البنى المصلحية الخالصة، فلا يمكن أن تكون مستقرة هي الأخرى، فتنازع المصالح كفيل بجعل التنافس بينها مدمرًا في غياب المنظومات القيمية بشكل كامل؛ لأن المصالح بدون قيم ستخضع لقدر كبير من التجاذبات البينية، وللصيغ التنافسية القاسية، التي ستدمرها باستمرار.
المدير العام | أحمد وديع العبسي