أ. عبد الله عتر |
يسكن في وعي العالم الإسلامي ارتباط قوي بين الحرية والكرامة، يستمد مبرراته من الفضاء اللغوي العربي ومن الفضاء الفقهي والتفسيري، فعند تعريف العتق والتحرير في المدونات الفقهية والتفسيرية ترتبط الحرية بالكرامة بشكل مُحكم، فتذكر أن من معاني العتق والحرية في اللغة الشرف والكرامة، ثم تبني على هذه المعاني اللغوية فهمًا خاصًا للحرية.
وبما أن الحرية لصيقة بالآدمية مغموسة فيها، فهذا يعني أن الكرامة الإنسانية ترتبط بالحرية بشكل مُحكم، ضمن هذا التوجه نجد واحدة من أوضح قواعد الفقه في تأسيس الحريات:
“ثبتت الحرية بالمعنى الأصلي وهو أن الآدمي مكرم محترم”
هكذا يُفصح عبد العزيز البخاري (عالم حنفي من القرن الثامن الهجري) في كتابه (كشف الأسرار) عن أصالة العلاقة بين الحرية والكرامة، فيصرح أن الحرية إنما ثبتت للإنسان لاتصافه بالكرامة الآدمية، وقد كان هناك إصرار على شمولية الكرامة لكافة الناس بغض النظر عن أي وصف آخر، فيؤكّد (ابن الهمام، والحصكفي، وابن عابدين) على المنطق العالمي للكرامة، وذلك عبر القاعدة الفقهية: “الآدمي مكرّم شرعًا وإن كان كافرًا”.
علاقة الحرية بالكرامة تأخذ شكلين:
- الحريات فرع عن الكرامة وأثر لها: لأن “الأصل أن يكون لكل إنسان يد على نفسه؛ إبانةً لمعنى الكرامة” كما يقول ابن الهمام، ويفهم ابن الجوزي من آية (كرمنا بني آدم) أن “إطلاق التصرف كرامة”.
- الحريات مؤشر على مدى الكرامة المتوفرة: فكلما انتُهكت الحريات انتُهكت الكرامة. من هذا المنظور يصف الإمام (الدّبوسي) حرية الإنسان وملكه لحقوقه بأنها “كرامات”، أي أن الحصول على حريات حصول على كرامات إنسانية.
يُلاحَظ أن الفقهاء والمفسرين اعتادوا على مقاربة مفهوم الكرامة بشكل عملي، فالكرامة انتقلت هنا من مفهوم مجرد إلى كرامات عملية، ولذلك تجدهم يعددون الكرامات تعدادًا، لأنها أصبحت أمورًا ملموسة وقضايا يعيشها الناس، هذا التفكير يترك أثره على فهم الحرية أيضًا بشكل عملي، حيث تتحول إلى حريات عملية.
هكذا تتصل الحرية بالكرامة وتتلون بها، والقراءة المعاصرة لهذا الموقف تعني أن ممارسة الحريات يجب ألّا تضع الناس في وضعية تنتقص كرامتهم، ينتج عن هذا التفكير محددان في التشريع والترتيب الاجتماعي:
المحدد الأول: يجب دعم الحريات الفردية بما يضمن كرامة العيش؛ لأن حرية العمل لا تؤدي دائمًا إلى مستوى عيش كريم، وقد تحصل مجاعة رغم تمتع الناس بحريتهم الفردية كما أثبت الاقتصادي (أمارتيا سن)، لذلك يجب على الحكومة والمجتمع أن يقدم دعمًا إضافيًا للفئات الفقيرة والأقل حظًا، والطلاب الذي لا يجدون فرصة التعليم أو لا يجدون كلفة الزواج، هنا نجد الزكاة أحد الوسائل التي شرعت من أجل موازنة حرية الملكية الخاصة مع حفظ كرامة الناس عندما يتعثرون في تحقيق المعيشة الكريمة بحدودها المعقولة.
المحدد الثاني: حريات لا تنتهك كرامة الآدميين، سواء كرامة الآخرين أو كرامة الشخص نفسه. وكل تصرف يخالف مقتضيات الكرامة يُعدّ تصرفًا معاديًا للإنسان، فالحرية فرع عن الكرامة، وليس للفرع أن ينقض أصله، فلا يصح إذن أن توجد حريات تنتهك كرامة الآدميين، لذا ينبغي أن تكون حرية التصرف محمية بضمانات الكرامة، فإذا فقدت تلك الضمانات انقلبت الحرية تقييدًا وتضييقًا، بناءً على هذا التفكير فإن مؤشر غياب الحريات هو “الإذلال وقبول المذلّة”.
طبَّق الفقه الإسلامي هذا في استنباط أحكام لقضايا متنوعة اجتماعية واقتصادية، ففي مسألة تتعلق بالطب والاقتصاد وهي بيع شعر الإنسان وأعضائه، اتجهت المذاهب الأربعة إلى تحريم ذلك وامتد هذا المنطق إلى المجامع الفقهية المعاصرة، وقليلة هي الأحكام التي تتفق عليها المذاهب السنية الأربعة مقارنةً بالمسائل المختلف فيها، وكان من أهم أدلة التحريم أن “حرمته لاحترامه، فالآدمي بجميع أجزائه مُكرَّم غير مُبتذَل، ولا يجوز أن يكون جزء منه عرضة للبيع والشراء”، يتساوى في ذلك المسلم وغير المسلم، فالحكم هنا منوط بالكرامة، والكرامة متساوية. يقترب من هذا قاعدة تداولها الفقهاء كثيرًا في نقاشاتهم، ونصُّها: “ليس للمرء أن يُذلّ نفسه”.
يجب أن تنفتح حرية التعبير على كرامة الآخرين، فلا يصح السبُّ والإهانة والاستهزاء والسخرية بالأمور التي يعدُّها الآخرون تمسّ بكرامتهم، كما يحدث اليوم في قضية الرسوم المسيئة والحرية الفرنسية التي تُصنف ضمن “الحرية المنغلقة” الناشئة عن تفكير أحادي بالحريات.