بقلم : أحمد الشامي مرت منذ فترة ليست بالبعيدة ذكرى اليوم العالمي للغة العربية ، حيث تلقاها أبناؤها بطرقتين مختلفتين ، أحدهما راح يشعر بالفخر بلغته، والآخر بدأ يرثي لها، إذ أنه شعر بالفقد تجاه ما يُحدث له ذكرى في هذا العالم ، فلو لم تكن اللغة في عداد الموتى ، لما كان هناك يوم لنتذكرها فيه ونقف على محاسنها الضائعة .ليس بعيداً عن الموقفين، يقبع موقف ثالث، مفاخراً بلغته التي يجب ان تشغل العالم كله في يومٍ ما ، ومنبهاً إلى ضرورة إحياء هذه اللغة تطبيقاً وليس تنظيراً .يخبرنا التاريخ أن الأمم تزول بزوار لغاتها، فلا بيزنطة ، ولا الإغريق ، ولا الفراعنة ، ولا حتى اللاتينيون لهم أثرً اليوم ، وإنما صار هناك شعوب جديدة فقدت كل اتصال بهذه الحضارات وماضيها العريق ، والأقرب للتجربة هم العثمانيون الذين فطنوا لضرورة إحياء أمتهم ، فبدأوا بإحياء لغتها في قرار تركيا الأخير ، ولا يخفى على أحدٍ ما للغة العبرية من أثر كبير في إعادة تكوين إسرائيل المندثرة منذ آلاف السنين .اللغة هي هوية الأمة وقاموس حضارتها ، وهي كل ما يربط الأجيال ببعضها، ويحافظ على الانتماء لها ، وعندما تضعف اللغات، تضعف الأمم وتبدأ بالتقهقر والتبعية للأمم الأكثر حضارة، وأول خطوات التبعية هي استخدام تلك اللغات في التعابير المختلفة بدلاً عن اللغة الأم .إن ادعاء بعض الناس بأن اللغة العربية ليست لغة العلم ولا يمكن التعبير بها عن الحضارة الحديثة وتساهلهم في استخدام لغات أخرى لهذا الغرض ، ربما يكون ادعاء صحيحاً، بالنسبة لهذا الواقع ، ولكنه ليس صحيحاً مطلقاً بالنسبة للغة العربية ، فالعربية هي اكثر اللغات تصريفاً وجذورا ، ويصل عدد مفرداتها إلى حوالي 12000,000 كلمة في أضيق قواميسها ، بينما تليها اللغة الإنكليزية بفرق كبير بحوالي 600,000 كلمة في أعظم قواميسها.لقد استطاعت العربية إبان قوة حضارتها أن تعبر عن علوم شتى لم يكن يعرفها العرب أيام جاهليتهم من الفيزياء والرياضيات والكيمياء والطب والفلسفة الإغريقية ، حيث كانت العربية الجسر الذي وصلت به هذه الفلسفة لأوروبا ، فجميع الترجمات الأوروبية للعلوم القديمة هي عن اللغة العربية ، وليست عن اللغات الأم لهذه العلوم . وهذا يؤكد قدرة العربية على استيعاب علوم اليوم بألفاظ دقيقة وأكثر تعبيراً عن مضامينها، ولكن عدم اهتمام العرب بذلك واستغناؤهم عنها، يجعلها في تأخر أكثر ويكتب على أبنائها تبعية لاتنتهي ، والمؤلم أكثر أنك صرت ترى العربي يستعر من لغته ويخجل لعدم قدرته على البرطلة بلغة أجنبية وخاصة في المصطلحات الرنانة التي صار لوكها نوعاً من التحذلق وأثبات الفهم الفارغ .إن التهاون في هذا الأمر يسهم في الانسلاخ عن الهوية فشعور المرء بعدم قدرة لغته على التعبير هو أول شعور بالعجز تجاه الحضارة، وتساهله في استخدام ألفاظ أجنبية هو تساهل في الانتماء للأمة والتاريخ ، إن أمة لا تمتلك لغة منتجة ستبقى أمة مستهلكة في جميع الميادين تقتات على فتات الدول المتقدمة وما يقدم لها من علوم ، دون القدرة على فهمها الكامل وإيصالها للأجيال بيسر وسهولة ، وستجعل حتى منتجها المحلي يتجه ليكون بلغة العلم التي يدعونها لا باللغة العربية، فأي ارتباط يبقى لهذا العربي بأمته حينما ينتج علماً بلغة اعدائه، بل ويفاخر بذلك ، هو علم إذن ليس للأمة بل لأصحاب تلك اللغة ، ألا يكفي هذا المثال للشعور بعظم المصيبة، أدركوا لغتكم قبل أن تموتوا بموتها .