تحقيق: عكيد جولي – الحسكة
لأنَّ الثورة تغييرٌ نحو الأفضل وهدمٌ لآلة الجهل والتخلف، فالثورة السورية منذ انطلاقتها كانت مقياساً زمنياً للمرأة ولنظرة المجتمع إليها.
فالفتاة في سوريا قبل الثورة لا تشبه نفسها أبداً بعد الثورة؛ لأنَّ نظرة المجتمع التي كانت متمثلة بالحدّ من نيل الفتاة لحقوقها وفق أعرافٍ وتقاليدٍ قديمة أكل عليها الزمن ومضى، تلك النظرة كانت تعيق أي محاولة تقدم لهذه الفتاة للمشاركة في جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية وحتى في بعض الأحيان في مجال النشاطات الفكرية والأدبية؛ ليكون الرجل ممسكاً بزمام الأمور في شتى المجالات، وهذه النظرة كانت تتفاوت حسب المجتمع والنشأة الاجتماعية للفتاة، فالريف والمدينة كانا متساويين في تهميش دور الفتاة في الحياة، لكنهما متفاوتان في النسبة؛ لأنَّ حياة الفتاة الريفية كانت تتمحور حول أمور المنزل والمساعدة في الزراعة وبالأخص البساتين، وأيضاً تربية المواشي وبذلك تقضي معظم وقتها في هذه الأعمال، وللتفصيل أكثر عن هذه المعيشة في الريف تُحدثنا صباح يونس (20 عاماً) عن جانبٍ من حياتها في الريف فتقول: “أعيش في قريتي التي تبعد عن مدينة القامشلي حوالي 20 كم ومنذ صغري أساعد أمي في تربية الأغنام وحلبها، وأساعد والدي في البستان، أتذكر حين كنتُ في المدرسة الابتدائية في القرية وأثناء كل فرصة عندما كان الجرس يرن للخروج من الصفوف كنتُ أركض إلى المنزل؛ لأساعد والدتي في حلب الأغنام، ثمَّ أعود إلى الصف ثانيةً، قضيت كل المرحلة الابتدائية تقريباً وأنا على هذا المنوال؛ لأنَّ الفتاة خُلقت للمنزل أو على الأقل هذا ما تعلمناه من أهلنا” إذاً: الفتاة خلقت للمنزل!
هذه الجملة تلخص جانباً لا بأس به من النظرة السلبية للمجتمع تجاه الفتاة رغم اختلاف وتفاوت في تلك النظرة كما ذكرنا سابقاً، فالنظرة إلى الفتاة في المدينة تكون منصفة نوعاً ما مقارنة بفتاة الريف، فالمدينة مزدحمةٌ بالمؤسسات الخدمية والنشاطات التوعوية والمراكز الثقافية والاختلاط الدائم بالناس، كلُّ تلك الحركة والطاقة الموجودة في المدينة تجعل من الفتاة أكثر انخراطا في المجتمع وقضاياهُ، انخراط قد يصطدمُ أحياناً بالعادات والتقاليد نفسها التي لا تتغير بتغير المكان، تقول شيرين إسماعيل (22عاماً) وهي من مدينة الحسكة لـ صحيفة حبر: “أدرس في معهد الرسم في السنة الثانية، وكانت رغبتي عند نجاحي في البكلوريا الالتحاق بالجامعة وبالأخص كلية الآداب قسم اللغة العربية، وعلى الرغم من أنَّ مجموع علاماتي كانت تؤهلني لتحقيق رغبتي إلا أنني جوبهتُ بمعارضة شديدة من أبي وأخي اللّذين صرخا في وجهي بحجة أنَّ الكلية تطول أربع سنوات، وأنَّ كلَّ الشباب والفتيات في الكلية لا يهمهم سوى العلاقات الغرامية في الجامعة، أمَّا المعهد فهو فقط سنتان وبعدها أبقى في المنزل حتى يأتي النصيب يوماً”.
هذان المشهدان قد يسلطان الضوء ولو قليلاً على جانب من نظرة المجتمع للفتاة، ولأنَّنا استبقنا كلامنا منذ البداية بكلمة (الثورة) فقد تغيّر الوضع فعلاً في ظلِّ الثورة رغم أنَّ التغيير يسير ببطء لكنَّه حصل وهذا هو الأهم، وأول ما لفت الانتباه في الثورة هو تسمية جمعة باسم المرأة (جمعة الحرائر) ففي خضم المظاهرات التي عمت أرجاء سوريا شاركت الفتاة منذ الانطلاقة الأولى، ووقفت مع الرجل في كل محطات الثورة، فكانت ناشطة ميدانية في المظاهرات التي تشارك بزخم في معظم المدن السورية، وعن تجربتها في هذا المجال تحدّثنا إيمان عبد الإله الطالبة الجامعية فتقول: “الثورة كانت فرحة وفرصة في آنٍ واحد، فرحة بالتعبير عن غضب الناس من حكمٍ دكتاتوري، وفرصةٌ لنا كفتيات لتغيير نظرة الناس السلبية تجاهنا، فأنا كنتُ فخورة بنفسي حين كنتُ أُعَامَلُ بودية من قبل الناس أثناء مظاهراتنا في القامشلي” تستمر إيمان في حديثها قائلة: “حتى أخي كان يقول لي في كل يوم مظاهرة: أسرعي يا إيمان لقد تأخرنا عن المظاهرة، وهو من كان يمنعني من الخروج من المنزل دون عذر مقنع بالنسبة إليه، كنَّا نهتف للحرية بأعلى صوتنا كأني وجدتُ الوسيلة المناسبة للتعبير عن مشاعري، ووجدتُ ما فقدتهُ منذ زمن” ما افتقدته إيمان وجدتهُ أو لعلَّها وجدت الطريق إليه، لا يهم كل ذلك بقدر ما تهم البداية، فالمشاركة في هكذا نشاطات ميدانية لم تكن حكراً على الشاب فقط، فالفرصة وحدها ما كانت إيمان تحتاجهُ، فقط فرصة من المجتمع لتبرهن للجميع أنَّها ليست أقلَّ من الجميع وقادرة مثلهم على فعل المزيد لهذا المجتمع، ولم يكن هذا النشاط الميداني بالمظاهرات هو الوحيد الذي مارستهُ الفتاة بعد الثورة، فالمجال الأدبي والفكري لم يصمدا طويلاً أمام اقتحام المرأة لأبوابه، فقد شاركت بالكثير من الندوات الأدبية والأمسيات الشعرية والأطر الثقافية التي بدأت تتبلور وتزدهر مع نضوج الثورة، ومن هذه الأطر نذكر رابطة الثقافة والفن في مدينة عامودا بمحافظة الحسكة، التي كانت هيفي قجو من المؤسسين لها والناشطين فيها بفعاليات أدبية وفكرية مختلفة، وعندما سألناها عن شعورها وهدفها من تأسيس الرابطة أجابت: “كان الهدف من التأسيس لمثل هكذا رابطة هو تنمية المواهب الفكرية والأدبية، فقد قمنا بالعديد من الندوات والأمسيات الشعرية وبعض المسرحيات كمسرحية أمام الكواليس وغيرها من الأنشطة، غير أنَّ شعوري كان لا يوصف عندما رأيتُ الكثير من الفتيات قد انضممن إلى الرابطة، وما زادَ من فرحتي هو مدى تقبل الناس لقيامنا كفتيات بمثل هكذا أنشطة، ومن كل قلبي أقول شكراً للثورة”. تشكر هيفي الثورة، فعلى الأقل أتاحت لها ولمعظم الفتيات فرصة إثبات الذات ولو بشكلٍ بسيط، بساطة تأخذنا إلى قصة أخرى وفتاة أخرى اسمها أميرة حمي، وهي كوافيرة تعمل في صالون تجميل السيدات بالقامشلي، حيث تحدّثنا قائلة: “أنا لستُ ملمة بأمور الأدب وغيره، أنا إنسانة بسيطة أعمل في صالون تجميل، تحسنت أحوالي المادية فاشتريت سيارة لأذهب بها إلى عملي، لكن نظرات الناس كانت ترمي بالاتهامات نحوي كأنني ارتكبت جريمة بحقهم، استمر الحال هكذا عدة أشهر حتى بعد الثورة، أمَّا بعد مرور أكثر من سنتين لم أعد أرى تلك النظرة أو بالأحرى كان الناس أقل اهتماما بالأمر، لا أدري إن كانوا تفهموا الأمر أو انشغلوا بأمورهم الأخرى في ظلِّ الظروف والأوضاع الصعبة، لكن ما يهمني هو أنني أقود سيارتي بحرية الآن” ربَّما لا ترتبط مثل هذه التفصيلة الصغيرة من الحياة بمقياس تغيير نظرة المجتمع للفتاة نحو الأحسن، لكنَّها بالنسبة إلى الفتاة تبقى مؤشراً واضحاً على حصول بعض الإيجابية في النظرة المجتمعية إليها.
فالفتاة في سوريا أثبتت بجدارة أنَّها تستحق أن يكون لها دورٌ فاعل ومشاركة في الحياة الاجتماعية دون انتقاص من كرامتها، فالتوجه العام تحوّل بعد الثورة إلى مؤسسات المجتمع المدني المتمثلة بالجمعيات والمراكز الاجتماعية منها والإنسانية، فقد كان حضورها لافتاً في كل مجال وكل دور تلعبه وكأنَّها كما قالت سلمى علو عضوة جمعية نوجيان لذوي الاحتياجات الخاصة بعامودا “لقد قمنا بثورتنا داخل ثورة” ثمَّ أكملت حديثها “لقد شاركت أنا ورفيقاتي من خلال تأسيس جمعية لذوي الاحتياجات الخاصة باسم جمعية نوجيان بهدف مساعدة المعاقين في البلدة وتقديم يد العون لذويهم من خلال منح مالية حيناً وإقامة حفلات للأطفال حيناً آخر” وتتابع سلمى ” كنَّا ثلاث فتيات من أصل سبعة أعضاء في الهيئة الإدارية، وما كان لنا فعل كل ذلك إلا بفضل الله ثمَّ فضل الثورة السورية”.
وسواء تغيرت نظرة المجتمع إلى المرأة أم لم تتغير بعد الثورة، أو نجحت المرأة في لعب دور أكبر في المجتمع أم لم تلعب، لا يهم كل هذا فنحن لسنا قضاة محكمة جزائية للحكم على القضية، ولسنا باحثين اجتماعيين لتحديد نسبة التغيير الحاصلة في تلك النظرة، لكن ما يهم أنَّ الثورة أصبحت تفرض وقائع ملموسة بالنسبة إلى المرأة، كما أنَّها لامست جرح المرأة بل كانت هذه الثورة هي الفرصة الأفضل لها لإثبات ذاتها في المجتمع وإقناع أكبر شريحة فيه بقبولها كإنسانة فاعلة داخل وخارج المنزل.