مشكلة عندما يكون أغلب من يكتب في معالجة قضايا المرأة وينظر لها هم الرجال! وتكون المرأة هي أسيرة التغذية على هذه الثقافة التي تخرج من خيال الرجل السياسي الذكوري، ولعل هذا يشير إلى انتقال القوامة حتى للساحة الثقافية، ولم تقتصر على المنزل والرعاية فقط وهنا ينحو القلم الذكوري إلى قلب الحقائق لصالح تحقيق مزيد من المكتسبات على حساب المرأة، وتقرير مسلمات لسلبها المزيد من الحقوق وضرب المزيد من الأسوار حولها.
وكلما امتشقت قلمي وحشدت خاطري واستجمعت أفكاري لأقتحم هذا المقام الضنك والمعترك الصعب أعود إلى إغماد قلمي من جديد لسبب وهو أن هذه المسألة تحتاج إلى تحليل عميق يغوص تحت هذه القشرة الخادعة من أغلفة الفهم القاصر للدين والأعراف البدوية المتصلبة والعقد الجنسية الطاغية التي تحرف كثيرا من الاقلام عن الموضوعية والغوص في العمق.
وكنت أتمنى أن تنبري من صف المرأة من تنهض لمعالجة قضية المرأة، لكن للأسف لازالت المرأة هي ضحية المرأة! وليست ضحية الرجل في الدرجة الأولى. فمن من المثقفين يستطيع أن يعالج قضية المرأة دون أن تنعكس في كلماته عقدة الكبت أو تتعكس منه عقد التحلل والتفلت ودون أن يلوي أعناق النص الإلهي في تبرير تقريراته الأخلاقية؟
أضحت المرأة اليوم ساحة لصراع التيارات الفكرية، إسلامية كانت أم حداثية، فكل منها يريد صياغة شكل المرأة الظاهري ونظام العلاقة معها على النحو الذي يعكس مدى غلبة تياره على المجتمع لتحولها إلى ورقة انتخابية تزيد حجم الأصوات في الصندوق ولتكن جسراً للمكاسب السياسية لا للإصلاح الاجتماعي.
لذلك بقيت ساحة الجدل في قضيتي اللباس والعمل هي الطاغية على محاور النقاش والبحث، لكن كل هذه التيارات تمعن في جرم تحطيم جوهر المرأة وتعدم وجودها الأدبي وتمنعها من إثبات الذات وفق حاجاتها الروحية والوجدانية الفطرية، وتقصرها إما على الوظيفة الحيوانية أو تجعل منها ماكينة حديدية لزيادة الإنتاج والتنمية.
وأول من يساعد على هذه الجريمة النكراء بحق المرأة هي المرأة نفسها من خلال كسر مجاذيف الانعتاق من هذه الوصاية الفكرية المرهبة، وكثير من النساء اللاتي عبرن من ساحة التهميش لساحة الفعل عبرن من طريق هذه التيارات لتؤدي من خلالها دوراً وظيفيا للاستثمار السياسي ولتكون عنصراً عاطفياً في التحشيد وراء مشروع غيرها.
لازال لدينا مشكلة في تعويم المفاهيم وإطلاق الأحكام، فدعاة تحرر المرأة يطلقون الشعار ولكن لا يبيحون عن محتواه، فتحرير المرأة من ماذا من أي شيء سنحررها؟؟ لا يصرحون! وهناك من ينادي ويطالب المرأة أن تكون محافظة، ولا يبين ما يخفيه من دعوات المحافظة على ماذا تحافظ المرأة؟ لا يبينون. فإذا به يعبئ المفهوم بالمحافظة على الأعراف والأفهام الخاصة للدين التي توصل لها وعلى عقده جنسية التي تحاصر فكره وفلسفته.
لكن لكم أن تتخيلوا كيف استطاعت خديجة رضي الله عنها أن تكتشف نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يكتشف هو نفسه! بينما تعجز النسوة اليوم عن اكتشاف ذاتهن في زمن التوحش الثقافي والإرهاب الاجتماعي الذي يتطرف بالاتجاهين في اتجاه التبذل واتجاه التحجر فتمحق الذات بين شقي هذه الرحى الطاحنة للقيم.
صحيح أن التحفيز مهم للرجل والمرأة على السواء وهو للمرأة ضروري أكثر، لكن في بيئة النكران والانغلاق على الذات وشيوع الثقافة الذكورية تحتاج المرأة لطاقات غير عادية تنطلق من التحفيز الذاتي فأغلب الناس تنتظر كيف تحطمك وتوقعك في شبك الأسر الثقافي، لا كيف تدفع بك إلى الأمام وتحررك من قيد الأسر فهذا مستبعد في زمن التوحش الفكري والفردية الأنانية والحب بالمقابل والعطاء المشروط.
إن المرأة مطالبة بتغيير ثقافتها وأفكارها بناء على ما يختاره لها أصحاب القوامة الثقافية وليس لها من خيار إلا أن تكون ساحة للصراع تخوض معركة غيرها لا معركتها الذاتية، وتذهب ضحية في معركة لا ناقة لها فيها ولا جمل، ومطلوب منها أن تتمذهب وتتدين وفق النموذج الذي يفرضه التيار وأن تظهر بالمظهر الذي يطلبه المدير، ومطلوب منها أن تترك تدينها أحياناً حتى غدت كالماء تأخذ خصوصيتها من المحلول ولا تفرض نفسها وثقافتها على المحيط ولا تضع لمسته على الأشياء.
لذلك لا تنتظرن المرأة من الرجل أن يحررها من قيد الإلغاء، ولتقتحم الميدان من أسواره الصماء ولا تنتظر أن تفتح لها الأبواب الموصدة، فإن العاجز عن اختراق الأسوار هو أعجز أن يثبت في منازلة أمواج الميدان الهائجة.
المصدر: مدونات الجزيرة