علاء عبد الرزاق محمود |
يقف “أبو صلاح” حانياً ظهره، متكئاً إلى عكازه، على باب مسجد” الحسين” في مدينة إدلب، متأملاً جموع المصلين المغادرين مع اصطباغ السماء بالحمرة المائلة إلى اللون البرتقالي، وضعت يدي على كتفه وهمست في أذنه:” بتهون”
التفت إليّ، وابتسم بوجهي ابتسامته المعهودة، وقال: “عادت سيرتها الأولى.”
من هي يا أبا صلاح؟ “
المساجد، لقد عادت كما يجب أن تكون، عادت بعد أكثر من ثلاثة عقود.”
ذُهلت ممَّا سمعت، فأردفت قائلاً: “كيف كانت إذاً؟”
دعنا نسير على الدرب؛ لأخبرك كيف كانت؟
مشينا على طول الطريق المحاذي للمسجد، عدت إلى سؤالي السابق: “كيف كانت؟” “
يا ولدي، كان المسجد داراً للعبادة، مكاناً للصلاة ليس أكثر، ترى فيه العجائز الذين ينتظرون حتفهم فقط، أمّا اليوم، يمكنك أن ترى جيلين أو أكثر، ترى الأطفال في جنبات المسجد يمسك كلٌّ منهم مصفحاً، متحلقاً حول شيخه، ترى أربعة صفوف أو خمسة في صلاة الفجر، وأحيانًا لا تجد لنفسك مكاناً وسط الزحام.”
تنهد قليلاً، ثم تابع: “
سلبوا المسجد دوره في بناء هذا الجيل، وجعلوا من الإمام موظفاً يقيم الصلاة لأجل راتبه، ملؤوا المساجد بالمخبرين، يترصدون من يصلي أكثر من صلاتين في جماعة.”
وصلنا إلى منزل أبي صلاح، ودخل منزله، ثم غادرت مسرعاً إلى أوراقي مدوناً ما سمعت.
لم تكن المساجد يوماً ما مكاناً للعبادة فقط، لكنه ما مرّ عليها جعلنا ندرك ذلك حقيقةً، فالعقود الثلاثة الماضية أو أكثر، جعلت منه مكاناً للاحتفالات الوطنية وتقديس السلطة الحاكمة أكثر من العبادة والصلاة.
يقول إمام مسجد بلال في مدينة إدلب” أبو أحمد: “عملنا الدؤوب في المسجد هو جعل دائرة المسجد تتسع أكثر فأكثر؛ لتشمل أهل الحيّ جميعهم والأحياء المجاورة، نقيم في المسجد باستمرار محاضرات دينية، توعوية، وتربوية، ولدينا أيضاً معهد لتحفيظ القرآن الكريم للنساء، وآخر للذكور، والهدف الأساسي من كلّ هذا، بناء جيلٍ يكون قادراً على المضي قدماً بشعلة الإسلام.”
هذا الهدف الأساسي للمسجد، إلى جانب أهدافه الدينية؛ لذلك أول ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، في المدينة المنورة، هو بناء المسجد، ففيه يجتمع المسلمون خمس مرات ويلتقون، مما يقوي روابط التكافل والمحبة فيما بينهم، فيه تُتخذ القرارات وتتم فيه الشورى.
وحين سألت الخطيب: (أبو أسامة الحموي) كيف يساهم المسجد في بناء المجتمع؟
أجاب: “بالإشراف عن كثب على هذا الجيل الناشئ، وتوجيه الأسرة سواء الآباء أم الأمهات، والتشديد عليهم بالأمانة الملقاة على عاتق الأسرة الإسلامية، فالمسجد ليس للعبادة والانقطاع لا، بل هو المكان الذي يتلقى في المسلم كلّ شؤون حياته.”
وأشار أيضاً إلى “ضرورة التعاون والتنسيق بين مديريتي الأوقاف والتربية والتعليم، فالطفل الذي يتعلم في المسجد شؤون حياتيه الدينية لا بد من رفده بمنهاجٍ تربويٍّ أخلاقيٍّ يحاكي ما تعلمه سابقاً.”
من يساهم في دعم العملية التربوية الدينية في المساجد؟
يجيب على هذا السؤال (أبو جميل) إمام أحد المساجد بإدلب: “هناك بعض الجمعيات الخيرية تشرف على عدة معاهد لتحفيظ القرآن للجنسين، ومثال على ذلك في مسجد شُعيب الكائن في مدينة إدلب.
وقد تم تخريج العديد من حفظة كتاب الله عزّ وجل من اليافعين والشبان الذين لم يتجاوز عمرهم الخامسة عشر.”
هل هناك خطةٌ مرسومةٌ وكادرٌ مهتمٌ بمتابعة عمل المساجد؟
هنا انتقلنا إلى مديرية الأوقاف للإجابة عن هذا السؤال، فأجابنا مسؤول المساجد بقوله: “عملنا الأساسي يقوم على رفد المساجد في المدينة بالكوادر المختصة والخطط الشهرية ومتابعتها، قمنا بتشكيل لجان خاصة في كل مسجد، تقوم على متابعة العمل التربوي والديني، ويشرف على اللجان إمام المسجد أو من ينوب عنه، وتقسم اللجان إلى:
اللجنة الدعوية والعلمية، و
اللجنة الاجتماعية،
واللجنة الترفيهية.”
ما هو دور اللجنة الاجتماعية؟
يضيف قائلاً: “تتنوع مهامها ما بين إنشاء مجموعات للتواصل، وهدفها الأساسي دعويٌ، وبين حضور المناسبات الاجتماعية سواء الأفراح أو غيرها، وزيارة أهل الحي مريضهم وجريحهم، والاطمئنان على أسر الشهداء وأبنائهم. “
ثم سألته مستغرباً: ما هو دور اللجنة الترفيهية؟ “
كانت هذه الفكرة جديدةً بعض الشيء، تتلخص مهام هذه اللجنة في تعزيز اللقاءات مع الشباب من خلال استثمار الألعاب الرياضية وتعزيز التواصل من خلال الوقت الذي يجمعنا بهم، من خلال الفرق الرياضية والملتقيات الترفيهية.”
ما هي التحديات التي تواجه مديرية الأوقاف والعمل على المساجد خاصة؟
“هناك عدة أمور تواجهنا على رأسها الوضع الراهن والحرب الدائرة، ونقص الكوادر العاملة مما يجعلنا نحمل العاملين ضغطاً رهيبًا من العمل، وإننا نشيد بأفراد المجتمع بمساعدتنا وتقديم يد العون كلٌ على قدر استطاعته، الباب مفتوحٌ لمن يريد أن يخدم هذه الأمة ويمكنه زيارة مكتبنا.”
يضيف الأستاذ (مسعف الرش)وهو مدرّس للغة العربية، قائلاً: “كان المساجد دور مهم في الحفاظ على اللغة العربية الفصيحة، تشد عضدها وتزيدها قوة في مواجهة اللحن والتحريف الذي طرأ على الألسن، نتيجة اختلاط غير العرب بالعرب من جهة، والحداثة التي طرأت على كلّ جوانب الحياة من جهة أخرى، ونظرًا لارتباط الدين بالعربية دأب العلماء في المساجد على تعليم العربية وتمكينها في نفوس طلبة العلم وكافة الشرائح المجتمعية التي ترتاد المسجد.”
كيف كانت تساهم في ذلك؟
“من خلال حلقات العلم التي لم يكد يخلو منها مسجد، وكانت الكتاتيب سابقًا لا تقتصر مهمتها على تحفيظ القرآن أو علوم الحديث، والفقه والأحكام، بل كانت تدرّس أمهات الكتب في اللغة العربية، النحو والصرف، على سبيل المثال لا الحصر، كانت بعض المساجد تعلم روادها صغاراً وكباراً منظومة قطر الندى، وألفية ابن مالك، والآجرومية، كان المسجد جامعة علميّةٍدينيّةٍ روحيّةٍ تضبط أفئدة الناس وألسنتهم.”
يُذكر أن المساجد خلال هذه السنوات الثماني الماضية كان لها دور مهم في الثورة السورية منذ انطلاقتها، فقد امتلأت جنباتها بصيحات المكبرين والمهللين، الصاخرين بوجه الطغاة، الساعين إلى حريتهم المنشودة.