تحدّثْتُ في المقال السابق عن معادلتين من المعادلات الصعبة، وسأحاول اليوم إلقاء الضوء على اثنتين منها:
3- لا تستطيع على المستوى الحضاري أن تنال ميزات الانفتاح والانغلاق في آن واحد؛ إذ لابد لك من أن تختار، وتوازن وتدفع الثمن، وتتحمّل التّبعات. إذا جنحنا إلى الانغلاق ووضع الحدود والحواجز بيننا وبين الأمم الأخرى، فوقفنا في وجه دخول المطبوعات، وكل المواد الإعلامية السيئة وغير الملائمة، وخضنا ما يشبه الحرب الباردة على المستوى الثقافي مع المخالفين، فزهّدنا الناس في منتجاتهم الفكرية والثقافية، وأثرنا الشكوك والشبهات حول رموزهم وأعلامهم… إذا فعلنا هذا، فماذا نكسب؟
قد نكسب شيئًا من تماسك موقفنا الثقافي والمعرفي والفكري، وقد نستطيع المحافظة على مكوناتنا الثقافيّة والعقديّة من الذوبان، وقد نستطيع تنشئة جيل يفخر بالانتماء إلى الإسلام، وينظر بحذر إلى الأديان والأيدلوجيات الأخرى، هذه المكاسب مهمة ونفسية، فالتجانس الثقافي ووحدة المعتقد والرؤية من أسس وحدة الأمة وأصول قوتها ونهضتها. لكن ماذا نخسر في هذه الحال؟
إن الانغلاق ووضع الحواجز يحرم ثقافتنا من الاتصال بالثقافات الحية المتجددة والمبدعة. ومن الواضح أننا في هذه الحقبة من التاريخ لسنا الذين يبدعون ويجدّدون، ولسنا الذين يخترعون، وإذا كنا لا نبدع، ونسدّ السبل أمام الاقتباس من المبدعين، فهذا يعني أننا نعمل على زيادة الفجوة بيننا وبين الأمم الأخرى.
الخلاصة لهذا كله هي: أن الانفتاح ينفع، لكن يهدّد بتشويش الرؤية وهدم مكونات الهويّة والخصوصيّة الثقافيّة، أما الانغلاق فإنه يساعد على التميز والترابط والوضوح، لكنه يهدّد بالتخلف والاقتتال الداخلي والعقم والاجترار، فما العمل؟
إقرأ أيضاً: المعادلات الصعبة (1)
4- كثر الناقدون للعمل الجماعي على صعيد الدعوة إلى الله –تعالى- وخدمة الإسلام، وأُلِّف الكثير من الكتب التي توضّح عيوب بعض الجماعات، وتشنّع على الانضمام إلى أي جماعة إسلامية. في المقابل فإن كثيرًا من أتباع الجماعات الإسلامية ينظرون إلى الدعاة والناشطين الإسلاميين الذين يعملون فرادى على أنهم لم يدركوا فوائد العمل الجماعي، ولم يدركوا الأخطار التي تتهدد الأمة، التي تقتضي من الجميع رصَّ الصفوف ووحدة الكلمة، ويصاحب ذلك نوع من الازدراء للمنجزات، وقد يصل الأمر إلى حد الاتهام بالتخذيل وإذهاب الريح.
حين يعمل الإنسان مع جماعة، فإنه يكسب الكثير من الأشياء، فهناك من يخطط له، ويشجعه، ويوفر له الإطار للعمل، كما يوفر له درجة من الانتماء الملموس والمحدد، وكثيرًا ما يكون العمل الجماعي حرزًا للشباب من الانحراف والعطالة.
وحين يعمل الإنسان بمفرده، فإنه يشعر بالحرية، ولا يجد نفسه ملزمًا بسياسات وخطوات ليس مقتنعًا بها، كما أنه يتحمل مسؤولية أعماله، ويختار قراراته. وبالإضافة إلى هذا فإنه يسلم من داء التحزّب والتعصّب الذي ابتُلي به كثير من أتباع الجماعات الإسلامية، ويسلم بذلك من الكثير من الغيبة والنميمة…الخ.
كيف نتعامل مع المعادلات الصعبة؟
1- التعامل مع مثل هذه الأمور شاق وصعب، بسبب عدم اكتشافنا لجميع العناصر التي تدخل في تركيب هذه المعادلات، فنحن لا نرى كل أجزاء الصورة، ولذا فهناك دائمًا إيجابيات وسلبيات لا نراها، ولا نحسب حسابها.
2- إذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني أن تعاملنا مع المعادلات الصعبة، يقوم على الموازنة بين ما نأخذه وندفعه، والموازنة لا تقوم دائمًا على معطيات واضحة، ولهذا فستظل موازناتنا موضع جدال وأخذ و ردّ، وفي هذه الحال فإن علينا أن نتعاذر مادمنا نظن أن مواقفنا تقوم على اجتهاد، فالاجتهاد لا يُحسم باجتهاد آخر.
3- أهم شيء في التعامل مع المعادلات الصعبة هو معرفة المكاسب والخسائر التي ستنشأ عن اختيار وضعية من الوضعيات، ولهذا يجب رصدها واعتبارها بدقة، ويجب أن نحاول ضبطها بضابط شرعي وضابط مصلحي معتبر.
4- إذا اخترنا وضعية من الوضعيات، فعلينا أن نفتح عينًا على المنهجية التي اخترناها، وعينًا على ما عزفنا عنه، وعلى سبيل المثال، فإن على من اختار العمل الفردي أن يدرك أن أمورًا كثيرة لا يستطيع القيام بها بنفسه، ومن ثم فإن عليه أن يكون مستعداً لطلب المعونة ممن يساعده فيها، كما أن عليه ببذل النصح والمشورة لمن يحتاجها من الجماعات والمجموعات الدعوية.
سيظل التعامل مع المعادلات الصعبة صعبًا، وستظل النتائج موضع شك أو جدل، ولكن لابد من أن نحاول لنصل إلى أفضل ما يمكن الوصول إليه.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
بتصرف ..