بقلم : أنس إبراهيملا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) نعلم أنَّ نفس الإنسان فيها حب الانتقام وحب الدفاع عن النفس وحب الثأر وما يروِّح به عن نفسه ويخفف ما يجده من الغيظ. والمثل العربي يقول: “من اسْتُغْضِب ولم يغضب فهو حمار”؛ لأنَّ الذي يُستغضب ولا يغضب يكون ناقص التكوين، فهل معنى ذلك أنَّ الله يمنع الناس من قول كلمة سوء ينفث بها الإنسان عن صدره ويريح بها نفسه؟ لا، لكنَّه -سبحانه -يضع شرطاً لكلمة السوء هو: إِلاَّ مَن ظُلِمَ؛ لأنَّ الظلم هو أخذ حق من إنسان لغيره.وكل إنسان حريص على نفسه وعلى حقوقه. فإن وقع ظلم على إنسان تغضب ملكات نفسه وتفور، فإمَّا أن ينفث بما يقول عن نفسه، وإمَّا أن يكبت ويكتم ذلك.فإنْ قال الله: * لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ * واكتفى بذلك، لكان كبتاً للنفس البشرية. وعملية الكبت هذه طاعة لأمر الله لأنَّه لا يحب الجهر بالسوء من القول، ولكن قد ينفلت الكبت عند الانفعال، وينفجر؛ لذلك يضع الحق الشرط وهو وقوع ظلم. فيوضح سبحانه: أنا لا أحبّ الجهر بالسوء من القول، وأسمح به في حدوده المنفثة عن غيظ القلوب؛ لأني لا أحب أن أصلح ملكة على حساب ملكة أخرى.إذًا من وقع عليه ظلم، له أن يجهر بالسوء. والجهر له فائدتان، الأولى: أن ينفث الإنسان عن نفسه فلا يكبت، والثانية: أنَّه أشاع وأعلن أنَّ هذا إنسان ظالم، وبذلك يحتاط الناس في تعاملهم معه. وحتى لا يخدع إنسان نفسه ويظن بمنجاة عن سيئاته، فلو ستر كل إنسان الظلم الذي وقع عليه لاستشرى الظلم في عمل السيئات. ولكن إيَّاك أن تتوسع أيُّها العبد في فهم معنى كلمة ظلم هذه؛ لأنَّ الذي ينالك ممن ظلمك إمَّا فعل وإمَّا قول. وعليك أيُّها المسلم أن تقيس الأمر بمقياس دقيق على قدر ما وقع عليك من ظلم* فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ *إذًا فالحق سبحانه وتعالى لا يعطينا في الاستثناء إلا على قدر الضرورة. ويوضح: إيَّاكم أن تزيدوا على هذه الضرورة، فإن كان ظلمكم بقول فأنا السميع. وإنْ كان ظلمكم بفعل فأنا العليم، فلا يتزيد واحد عن حدود اللياقة.وبذلك يضع الحق الضوابط الإيمانية والنفسية، فأزاح الكبت وفي الوقت نفسه لم يقفل باب الطموح الإيماني. لقد سمح للعبد أن يجهر إن وقع عليه ظلم. لكن إن امتلك الإنسانُ الطموحَ الإيماني فيمكنه ألا يجهر وأن يعفو. إذًا فهناك فارق بين أمر يضعه الحق في يد الإنسان، وأمر يلزمه به قسراً وإكراها عليه؛ فمن ناحية الجهر، جعل سبحانه المسألة في يد الإنسان، ويحب سبحانه أن يعفو الإنسان؛ لأنَّ المبادئ القرآنية يتساند بعضها مع بعض.