يتبنى عدد من المفكرين والفلاسفة المعاصرين أسلوبًا هادمًا للثقافة التي يرونها سببًا في التراجع الحضاري في أطروحاتهم ونقاشاتهم ومنتجاتهم الفكرية، ويتناولون بالنقد القاسي مختلف مجالات هذه الثقافة على الصعيد التاريخي سياسيًا وفكريًا وفلسفيًا وحتى اجتماعيًا في كثير من الأحيان، وربما كانوا على حق في كثير ممَّا يعتقدونه في هذا المجال، خاصة بالنسبة إلى الأمثلة التي يطرحونها، والتي تركز على بناء النظرية التي يؤمنون بها في جعل مكونات هذه الثقافة أو الحضارة جزءًا رئيسًا من حالة التخلف والسبات الذي وصلت إليه.
والمشكلة التي تحدث دائمًا في هذا السياق كثرة الطروحات النقدية الهادمة مقابل ضعف الطروحات التي تحمل حلولاً أو بدائل تنتمي لتلك الثقافة وهويتها الحضارية، والتركيز على انتقاد مشكلات التاريخ خارج سياقاتها الحضارية وجرّها إلى السياق الذي نعيش به؛ لأنها امتدت إليه بشكل أو بآخر، بالإضافة إلى التعميم الذي يقع فيه البعض بحجة الشيوع، أو بسبب تجاهل الإشارة إلى بعض الجوانب المشرقة لكي يتم التركيز على المشكلات ومحاولة علاجها، ولما يسببه أحيانًا التركيز على تلك الجوانب في رأيهم من تخدير للجماهير ونبش للتاريخ من أجل إيجاد الحلول في واقع يتطلب نبش الواقع والتطلع للمستقبل.
ويرى الكثير منهم أن هذه الحالة من التعرية والهدم صحيةٌ ستجبر المجتمعات على إعادة إنتاج حضارة جديدة بدلاً من التدثر بالماضي، ويسقطون من حساباتهم مشكلتين غاية في الأهمية:
الأولى: أن هذا الهدم سيأتي على بنيان الهوية والانتماء بشكل أو بآخر وسيشكل قطيعة مع الماضي لصالح بناء مستقبل لا ينتمي إليه، وبالتالي هدم الحضارة كاملة، لنصبح جزءًا من مستقبل حضارات أخرى وهو ما سينتج عن المشكلة الثانية: التي تتمثل في أن المجتمعات التي تعاني من ضعف في البناء الحضاري وتستند إلى التاريخ لن يحركها هدم ما تستند إليه من أجل إعادة بناء حضارتها من جديد في واقع تعاني منه كل أساليب الاستبداد والتخلف، ففي عصر العولمة سيكون الاستناد إلى حضارات أخرى والتبعية لها وتقليدها هو الخيار الأسهل والأكثر جذباً، لذلك ستكون كل الحلول المطروحة مستوردة، وبالتالي سنخسر قيمة وجودنا كحضارة متفردة لها امتداد تاريخي وصيغة مستقبلية تنتمي إليها.
واعتقد أن الحل في طريق النهضة يكمن في التركيز على الواقع أساسًا وليس على التاريخ، وفهم التاريخ في سياقاته الكاملة، والإشارة إلى سلبياته وإيجابياته ضمن تلك السياقات للاعتبار وليس للهدم، والإصرار على بناء نموذج حضاري يستند إلى الهوية نفسها وليس إلى تجارب الآخرين الذين يعيشون ظروفًا وقيمًا وسياقات اجتماعية مختلفة.
المدير العام | أحمد وديع العبسي