عبد الله درويش |
رياح باردة، كبرودة الإنسانية، وشديدة كالقصف الذي تعاني من وطأته منطقة الشمال السوري، رقد الأولاد بعد أن قرأوا ما يحفظون من قصار السور، وبعد أن أمطروني بكم هائل من الأسئلة، كيف ينفجر الصاروخ؟ هل المدفع أقوى أم الطائرة؟ أليس بشار الأسد ضعيفًا لمَ يقاتل؟ هل كل الدول تُقصف مثلنا؟ …
هذه الأسئلة توحي بفهم الأطفال لما يجري، وبخوف مبطّن في الأسئلة، لقد ناموا الآن، لكن أسئلتهم واستفساراتهم ما تزال تتردد في عقولهم على الأرجح.
(محمد سعيد) ذو الست سنوات، بدأ يعاني من الكوابيس، لذلك ينام بجانب إخوته.
أحاول جاهداً أن أطمئنهم، وأكون صريحاً معهم، وأطلب منهم أن يكونوا هادئين، وأن هناك حياة أفضل، وأنه بعد الموت هناك الجنة، حيث الهدوء والسكينة وكل ما يرغبون به.
أما الناس، فتحسبهم سكارى، وما هم بسكارى، يتلاطمون كما الموج الهائج، كما الفراش الحائر، لا يهتدون السبيل، هل يبقون في بلدتهم، أم هل ينزحون، وإلى أين؟
فهم لا يملكون قوت يومهم، فكيف يرتحلون؟ حتى الخيمة باتت حلماً، وحتى المخيم بات أمنية!
الناس يحتاجون القادة المجتمعيين الذين يطمئنوهم، يثبتوهم، يقوّوا عزيمتهم المنهارة.
وتدور في رؤوسهم مئات الأسئلة، كما الأطفال، لماذا هذا الصمت الأممي؟ لماذا تخلّى عنا الناس؟ وماذا سيحلّ بنا؟ وما عسانا نقدّم لأبنائنا من تطمينات؟
باتت الطرق فارغة، لا حركة أسواق، ولا تجمع للأصدقاء، ولكن تعج الطرقات بحركة النزوح، والمؤلم أن لا وِجهة محددة، يسيرون فحسب.
الحياة هنا، أشبه بغابة، لا أمان، ولا استقرار، ولا يعرف أحدهم متى يموت، ولا أين، ولا كيف.
وقد أصبحت أعصابهم هشّة، وعقولهم حائرة، ولا بصيص أمل، يلجؤون إلى الدعاء، يتمسكون بأوهى الخيوط، لعلها تكون المسكّن لآلامهم، والتي تجعلهم على هدى …
يتابعون الأخبار، والاجتماعات، والمؤتمرات، والتحليلات.
هنا الحياة، ولا حياة، هنا الموت الذي تفوح رائحته مع كل دوي انفجار، ومع كل طلعة طائرة، لا تحمل على متنها إبراهيم هنانو، كما كانوا يغنون وهم صغار، إنما تحمل صواريخ الغدر والقتل.
رائحة الموت التي تفوح مع كل ذكر للجيش، وليس الأمن الذي سمعوه من النشيد الوطني، حماة الديار، فلا يهدونه السلام، بل اللعنات.
ويتساءلون: من أين جاء البشر بهذه القسوة التي فاقت الضواري، والصخور القاسية؟!
ويخطر ببالهم كلمة (ماوكلي فتى الأدغال) الذي كانوا يتفاعلون معه وهم صغار: ” لقد تركت الغاب لأنني إنسان، لكنني عندما عشت بين البشر، رأيت الظلم، رأيتهم يأكلون ولا يشبعون”!
ويراجعون أنفسهم، ألسنا أبناء هذا البلد؟! أليست الحرية حق؟! أليست الحياة حق؟! أليس الوطن بيت؟!
وينظرون في عيون أبنائهم المذعورين، فلا يرون فيها الإرهاب الذي تتحدث عنه السلطة؟!
فلماذا كل هذه القسوة؟! ولماذا يعيش هؤلاء الأطفال الخوف؟! ولماذا يعانون التشرد ويُحرمون من أدنى حقوق الإنسان؟!
وتبقى كل هذه الأسئلة تدور في رؤوسهم بدون جواب، ليسيطر المجهول وحده مع الإجرام المستمر. ويستيقظ الأطفال من جديد، وتصحو معهم التساؤلات ذاتها، ومنهم من لا يصحو، فيكمل ما تبقى من أهله ذات الأسئلة.