علي سندة |
لطالما سمعنا وقرأنا أنَّ الشيء يحن إلى أصله، فترانيم (الناي) ذلك القطعة التي قدَّت من أصلها، تتميز بطابعها الحزين وبثّ الشكوى والألم، فاتخذه العاشقون لملامسة نياط القلب في الحزن والشوق والفراق والحنين. إنَّ تلك القصبة تبقى في حنين دائم إلى جذعها حتى تموت شوقًا وتحرُّقا في سبيل عودتها إلى ما خرجت منه، وكذلك حال الوطن مع الإنسان، فالوطن كما أورده صاحب (الصحاح) محلّ الإنسان، أي أصله ومبتدأه في ذلك المكان على الأرض، ومن هنا تبدأ قصة الحب الغريزية التي تولد مع الإنسان فوق ثرى ذلك المحل.
استقامة علاقة الحب تلك واستمرارها تبقى على حالها مالم يدخل واشٍ بغرض تعكير صفوها لخطفها وتفريق مُحبيها، والواشي هنا يُمثل من يحكم الأرض بغير حق ويجعلها لفئة دون غيرها بخيراتها وما فيها من واجب تجاه كل أبنائها، وبالتالي هو المُسبب الرئيس في ضرب تلك العلاقة الفطرية بين المُحبين، ما ولّد أقسامًا عدة إليكم القول في تصنيفها.
فالأول من سمع قول الواشي من جانب وسمع قول مصالحه من جانب آخر وباع أخاه في حبّ أمه (الأرض) رغبة لما ذُكر، وأشد ما يُلاقينا من هؤلاء مزاودتهم في الحبّ والانتماء وعدم التخلي عن الوطن والوقوف إلى جانبه في محنته!
والثاني من لم يستمع قول الواشي وآثر البقاء، فضحّى بكل شيء حتى بنفسه، فقضى نحبه دون من يحب ليحظى بالتوسد في القلب فالتقت قُلوب المحبين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
والثالث أيضًا لم يستمع قول الواشي وضحَّى بما لديه دفاعًا عمَّن أحبّ، لكنه حين وجد أنَّ البقاء دونه الهلاك والمعركة جولات والأصل في النفس البقاء والاستخلاف، حمل الوطن في قلبه لإداركه أنَّ استمرار حبه قائم حتى لو فقد اللقاء، فهذا يرى أنَّه حيثما ولَّى وجهه مهاجرًا فثمَّ روح الوطن مائلة في كيانه مشكلان ثنائية الجسد والروح بالتبادل، فالإنسان مُكرم حتى على الملائكة التي سجدت لسيدنا وأبينا آدم عليه السلام، والرعيل الأول من الصحابة هاجروا بدينهم نتيجة من يحكم الوطن وقتها، ثمَّ هاجر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من مكان مولده ورضاعته ونشأته وتعبده ونزولِ الوحي وأحبِ بقاع الأرض إلى قلبه. ليبقى هاجس العودة غير بارح مُترقبًا سنة التدافع في الأرض وفرصة العودة.
في الأنواع السابقة لا علاقة للأرض فهي صمَّاء بكماء لا تسمع وتتكلم إلا بهمسات وأسرار العاشقين المُخلصين، فهي تستطيع تمييزهم، فتراها تتمثل لهم في كل بقعة تُضيفهم وتُسلم عليهم وتعرفهم من نضرة الحب في وجوههم، وتتمنى لهم السلامة أنَّى اتجهوا، وأيضًا تراها تحتضن من ضحَّى لأجلها وضمّخ دمه في ثراها ونام في قلبها الذي مايزال في توسع حتى يصبح روضة من رياض الجنة.
وبالمُقابل تراها تتنكر لمن بقي فوقها مُدعيًا الحب، يطأ أديمها فتلعنه بدل أن تطوي له المسافات، ينظر إلى وجهها فتعرفه من آيات التُقية في وجهه، يقرأ لها ألم نشرح فتقرأ له عبس، لكن قلب الأم رؤوم عطوف سمته الدعاء بالهداية، فهؤلاء إن لم يهتدوا فقد أضلهم الله وبئس مثوى الضالين.
أخيرًا سأذكر صنفين ممَّن ينتمون إلى الوطن، أمَّا الأول فهم أنتم أيها الخائنون عنوة، إذ لا تصنيف لكم في حبّ الوطن، فالأرض تلفظ حِممها عبر براكينها لترميكم وترمي بكم. وأما الآخر فأنتم معشر المغلوبين الفقراء الذين بقيتم في الوطن تنتظرون إخوانكم الراعين، يُمثلكم موقف المُتهم والقاضي الذي أورده (محمد الماغوط) في إحدى مسرحياته، حيث نعت المُتهم الوطن بعبارة “الوطن لا يساوي حذاء” حينها وجه القاضي إلى ذلك المُتهم كل المواقف التي قال فيها تلك العبارة، ليقرَّ المُتهم بجميعها مُجيبًا القاضي: “لقد كُنت حافيًا يا سيدي” والسلام على المُحبين الصادقين.