جاد الغيث |
جرت الحادثة التي سأرويها لكم في حقبة الثمانينات، وهي كما يقال على ذمة الراوي، والراوي كان ضابطا في الجيش له معارف في الأمن والقيادة الحزبية.
في تلك الفترة كان خوف الناس قد بلغ أقصاه بعد مجزرة حماة وما أصطلح على تسميته بأحداث الإخوان المسلمين.
تعود ابنة الضابط في أحد الأيام إلى البيت متورمة اليد، لقد تلقت ضربات بالعصى على يدها، ليس لأنَّها لم تكتب واجباتها المدرسية، إنَّما لأنَّها رفضت طلب المعلمة بإجراء التدليك للمنطقة ما بين كتفي المعلمة! يبدو الأمر غريباً والطلب أغرب! والعقوبة في مثل هذه الحالة تجاوز للقانون والإنسانية معاً.
في صباح اليوم التالي توجَّه الأب إلى المدرسة ليدافع عن كرامة ابنته المدللة التي تلقت عقاباً موجعاً وهي لم ترتكب ذنباً يستحق العقاب، وقد تصدعت مشاعرها وهي لم تزل طفلة في الصف السادس الابتدائي.
فمن حقِّ كلِّ أبٍ أن ينتصر لمشاعر أبنائه إذا تعرضت للإهانة بصفته أبا وولي أمر، ووفقاً لأحكام القانون وليس بصفته ضابطاً وله سند قوي في جهاز الأمن،
لكن للأسف في تلك الأيام وحتى هذا اليوم ما زال القانون يُطبق على الضعفاء وينجو من العقوبة أصحاب السلطة والمال.
دخل السيد الضابط إلى غرفة مديرة المدرسة، وأمر باستدعاء المعلمة على الفور لتنال نصيبها من التوبيخ بعد أن أصرَّت على إنكار فعلها، وهنا استشاط الأب الضابط غيظاً وغضباً وتوعَّد المعلمة بأقسى عقوبة يمكن أن تخطر ببالها، بكت المعلمة خوفاً وانعقد لسانها وضاع رجاء السيدة مديرة المدرسة والسيدة الموجهة سداً، وخرج الضابط الغاضب والشرُّ يلوح في عينيه متوعداً ومهدداً.
وفي مساء ذات اليوم ذهب والد المعلمة بصحبة السيدة المديرة ليستشفع لابنته، ولأنَّ الضابط ذو خلق حسن قبل بأبسط عقوبة ممكنة وهي نقل المعلمة.
كان من الممكن أن يمحى اسم المعلمة نهائياً من ثبوتيات وزارة التربية، لكن يكفي نقلها من مدينتها حلب إلى مدينة دير الزور، هذه رحمة وشفقة في قلب السيد الضابط، وهو القادر على عزلها من التعليم للأبد ومحاسبتها قضائياً، والحمد لله َّأن العقوبة لم تشمل مديرة المدرسة والموجهة أيضاً.
انتهت الحادثة عند هذا الحد والراوي ما زال يجلس أمامي وهو يروي التفاصيل بنبرة صوت حادة ولغة جسد قاسية، ممَّا جعلني أغضب لمجرد أن تخيلت لو أنَّ هذه البنت الصغيرة لم يكن أبوها ضابطاً مهمّاً ذا يد تطول لتقطع أرزاق الناس أو تغير مكان عملهم بمجرد اتصال هاتفي.
وماذا لو كانت المعلمة المذنبة لها يد طائلة في الأمن أو الحزب أو الجيش؟
من سينتصر حينها؟ ومن سيوقع العقوبة بمن؟ كأننا أمام قانون الانتخاب الطبيعي، القوي يغلب الضعيف، ولسنا أمام قانون عادل يتساوى أمامه الناس جميعاً، “إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَكُمْ أَنَّ الشَّرِيفَ إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ حَدُّوهُ، وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا”
عدالة نبوية ترقى بمشاعر الإنسان وتحوِّل العقوبة إلى شعور راقٍ بالتطهير من الذنب، وليست العقوبة انتقام من طرف قوي يملك القرار والسلطة تجاه طرف مذنب لإذلاله وتجريده من إنسانيته، ليس لأنَّه ارتكب مخالفة تربوية أو قانونية، إنَّما لأنَّ الطرف المتضرر هو ابنة ضابط مهم.
وحين يرتكب الجريمة من هو أقوى يبرر فعله، كما تمَّ تبرير الكثير من الجرائم والمجازر بحقِّ الشعب السوري على مدار سنوات من عمر الثورة، وكان أبشع تبرير لذنب لا يغتفر حين قلعت أظافر أطفال الحرية في درعا ولم يعاقب الفاعل، فهو ابن خالة السيد الرئيس.
الراوي صاحب الحادثة ضابط منشق، ولا أدري إن كان قد روى الحادثة ليستعيد شيئا من أمجاد سلطته السابقة.