في ظلِّ ظروف الحرب، والأوضاع المتوترة، والتفجيرات المفاجئة التي تخرق أي فكرة للاستقرار والعودة للحياة الطبيعية، تصبح مزاولة الأعمال أمراً مقلقاً، والذهاب إلى المدارس مخاطرة، وإرسال الأطفال إلى الروضات مغامرة!
اقترب موعد المدارس، وهذه السنة شهدت هدوءًا نسبياً نوعاً ما عن السنين السابقة، ما وجد الأمر مقبولاً من الجميع لاستكمال دراستهم والنهوض من جديد…
لكن ما لا يخفى على أحد أنَّ المنطقة لم تنعم بعد بالأمن والاستقرار، بل معرضة في كل لحظة أن تكون مشروع عبوةٍ ناسفةٍ أو سيارة مفخخة…
الأمر إذاً يستدعي التفكير كثيراً قبل إرسال الأطفال إلى المدارس أو رياض الأطفال، ويجعلنا نفكر بالتعليم الذاتي كخطوة بديلة عن التعليم المدرسي الذي تربينا عليه، وربما كان بديلاً؛ لأنَّه مرتبط أصلاً بمستوى الأسر العلمي ومخزونها الثقافي، وبالتالي ستُلقى مسؤولية كبيرة على عاتق الأسرة، وستزيد إلى وظيفتها التربوية وظيفة جديدة هي التعليم.
فبعد ما أجبرت الحرب كثيراً من الأطفال على التخلي عن تعليمهم وانقطاعهم أكثر من عامين تقريباً خلقت هذه الحالة فجوةً كبيرةً بين عُمر الطالب وبين ما يناسبه من تحصيل علمي، فأغلب الصفوف اليوم تحوي على مقاعدها طلاباً أكبر سناً ممَّا يجب أن يكونوا عليه، لكنَّهم أقل حظاً فكانوا الخاسر الأكبر بهذه الحرب المشؤومة.
وبما أنَّه ليست كلُّ الأسر قادرة على متابعة تعليم أطفالها بالمنزل كون المسألة معقدة وتحتاج إلى مستوى عملي يؤهلها لهذه المهمة والتفرغ لها والإحاطة التامة بكل تفاصيل العملية التعليمية لتكون النتيجة كما يجب، فلا بديل عن المدرسة، بل ستحتاج المدرسة للأسرة كمدعمٍ لجهودها ومكمِّلٍ لمسيرتها.
تجسد لنا أم عبد القادر واقع أغلب الأسر هنا، فهذه السيدة قد أهمَّها حال ما وصل إليه أبناؤها من تركهم للتعليم لأكثر من عام، فعبد القادر من المفروض أن يكون في الصف السابع، لكنَّه مضطر لأن يجلس مع أخته ريم في مقعد واحد بالصف الخامس بعد ما انقطع عامين عن المدرسة، فاليوم تواجه هذه الأم ككثير من الأمهات مشكلةً كبيرةً في استكمال تعليم أطفالها مع علمها مسبقا بتدني مستوى تعليمهم وهشاشة قاعدتهم المعرفية التأسيسية.
وتقول: إنَّها غير قادرة على متابعة تعليم أطفالها لوحدها في المنزل كما تفعل بعض السيدات المتعلمات، فهي لا تتمتع بتحصيل علمي ولا خلفية ثقافية تؤهلها لحمل هذه المسؤولية على عاتقها، بل سترسل أطفالها لاستكمال تعليمهم في المدرسة رغم الظروف المتوترة وعدم الأمان، لكنَّها لن تحرمهم هذا العام أيضا من المدرسة، فهي تقول: إنَّهم في حمى الله.
ورغم وجود المدرسة تدرك جيداً هذه الأم أنَّ الأمر ليس بهذه السهولة، وأنها ستتعب كثيراً مع أطفالها وستبذل جهداً مضاعفاً معهم، وستلجأ لشتى الوسائل المقوية كالدورات التعليمية والدروس الخصوصية، وبكلا الحالتين هناك متطلبات مادية إضافية ستقع على كاهل الأسرة لا بديل لها عنها حتى تستدرك النقص وترفع مستواهم لما يناسب عمرهم وصفهم الحالي…
هكذا أصبحت الصورة أكثر وضوحاً، فالعملية التعليمية هذا العام ستتطلب جهداً مضاعفاً من المدرسة والأسرة على حدٍّ سواء، فالجهتان معنيتان بنقل الطالب نقلةً نوعيةً من مستنقع الجهل والتسرب المدرسي والانقطاع عن التعليم، إلى مرحلة ينيرها العلم ويمسح غبار الحرب وتوابعها من تخلف وأمية، وبالتالي فإنَّ الاعتماد على جهة واحدة دون الأخرى لن يؤتي أكله، فالمدرسة ليست كافية لاستدراك النقص، والأسرة لوحدها لن تكون قادرة على هذه المهمة مهما بذلت من جهد مضاعف، وهنا لابدَّ من تعاون وتكافل بين الجهتين للحصول على النتائج المرجوة.
وأخيراً أكثر ما سيميز هذه المرحلة هو التحلي بالصبر ثم الصبر مع الإيمان بحتمية النجاح، لنصدِّر للعالم صورة مشرقة عن أطفال قضوا طفولتهم تحت قصف الطائرات ومازالوا يتمتعون بحب الحياة وصناعة المستقبل بأيدٍ صغيرة لطختها دماء الحرب بدل طباشير المدرسة.