جاد الغيث |
وما يزال الإمام يخطب بالناس يوم الجمعة عن الوضوء والطهارة، ومايزال يحثهم على اتباع آداب الإسلام في الطهارة والتطيب، ومايزال الكثير من المصلين يغضبون (وأنا واحد منهم) غيرة وشفقة على الدين الذي لم نعد نفقه منه سوى أحكام الوضوء!!
قلت للشيخ الخطيب: يا سيدي ألا يكفينا الحديث على المنابر عن الوضوء ومبطلاته وغسل الجنابة وموجباته؟!
ابتسم الإمام وقال: “يا أستاذي، يبدو أنك جامعي مثقف، ولا شك عندي أنك تعلم الكثير عن أمور دينك، لكن ما العمل مع أولئك الذين لا يعلمون؟ هل نتركهم دون علم، فيغرقوا في ظلمات الجهل؟!” ابتسمت له مجاملاً وخرجت من المسجد، ودخلت مع أفكاري في السرداب العجيب، مشيت حتى تعبت فتوقفت مستجيبًا لنداء صديقي الذي وجدت نفسي فجأة قريبًا من دكانه، استقبلني بترحيب وحفاوة وكان وجهه طافحًا بالسرور كعادته، لكنه هذه المرة كان كمن يخفي شيئًا يضحكه، وحين استوضحته أجابني باختصار:
“جاري (الكومجي) يصلي معي منذ ثلاثة شهور، واليوم بالصدفة اكتشفت أنه لا يعلم أن الوضوء شرط من شروط صحة الصلاة، بل كان يظن أن الوضوء مستحب قبل الصلاة وليس شرطًا لصحتها!”
وبينما يسرد صديقي التفاصيل ويضحك مستنكرًا، كنت أستعيد كلام الإمام متعجبًا، تغيرت ملامح وجهي وشعرت بحزن يعتصر قلبي، عادت ذاكرتي لسنوات طويلة مضت كأني أقف الآن في مدرج كلية الحقوق وأستعيد صوت أستاذ الشريعة الإسلامية وهو يقول بالحرف الواحد:
“كاميرا الإسلام أيها السادة تهتم بأدق تفاصيل حياتنا، هذه الكاميرا رصدت أحولنا في بيت الخلاء فعلمتنا الطهارة والاستنجاء، وسارت معنا في كل شؤون حياتنا حتى وصلت مع الحاكم إلى أعلى مقام، فعلمته أصول الحكم والعدل وأفضل طرق السياسة الشرعية للتعامل مع الدول الأخرى.”
وقلت لنفسي: للأسف، هذا الدين العظيم لم يبقَ منه اليوم في أذهان معظم الناس سوى أحكام الطهارة والوضوء، وأسئلة مستفزة في ذهني تثير الجدل والفرقة من قبيل
ما حكم المعايدة في رأس السنة الميلادية الجديدة؟ وهل يجوز الاحتفال بمولد النبي الكريم؟! وهل بناء المساجد أفضل من الصدقة على المهجرين المنكوبين؟! ونسينا أن في العالم الإسلامي ملايين المساجد تفاجئك بالمستعطفين والسائلين الواقفين على أبوابها، كما تدهشك الأحذية المتسخة المبعثرة هنا وهناك، والإسلام دين التنظيم والنظافة!!
حث ديننا الحنيف على نظافة الظاهر والباطن، ونحن في داخلنا أسوأ من شوارعنا المكتظة بأكياس القمامة صيفًا، وبأكوام الطين شتاءً!
نسينا أو تجاهلنا أن الإسلام خلق وسعة وانفتاحًا، وصار همنا تكفير الآخر والبحث عن نقائصه وعيوبه ومحاربته في أمور اختلف فيها الفقهاء وتركتها الشريعة السمحاء للاجتهاد الذي لا يضيق واسعًا.
نسينا قوله تعالى: “إن مع العسر يسرا” وتجاهلنا أن النبي الكريم ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثمًا.
فأين نحن من رحابة صدر الإسلام الذي يتسع للجميع، لقد غدا الدين على أيدينا ضيقًا لا تتسع له صدور حديثي العهد بالإسلام من غير المسلمين أو من المسلمين العائدين لشرع الله، وذلك من كثرة ما يرون من اختلاف أهل الإسلام وفساد طائفة كبيرة من علمائهم، حتى قال رجل حكيم أظنه أمريكيًا أشهر إسلامه مؤخرًا:
“الحمد لله أنني دخلت في دين الإسلام بعد أن درست هذا الدين من كتب العلماء الصالحين، ولو أني تعرفت على الإسلام من حال أهله لما دخلته أبدًا.”