يسرف جمهور الثورة و(غيره) اليوم في طرح مثالياته على كل شيء، وفي تخيل شكل المدينة الفاضلة التي يسعى لها في دولته القادمة، وفي تخيل الأهداف الكبرى التي لن تنتصر ثورته إلا بتحقيقها كاملة، وعلى كثرة انقسامات هذا الجمهور، وكثرة تصوراته، يصبح شكل هذه الدولة ضبابياً، وغير قابل للتحقق، إذ إن كل فريق في جمهور الثورة على محدوديته، يريد شكل الدولة القادمة وفق ما يناسبه أو سيستمر في خلق الفوضى التي ستوصله إلى ما يريد، مع استمرار تجاوز من لم يشاركوا في الثورة أو الذين يقفون على الطرف الآخر منها، كأن النصر إن حدث سيجعلهم يختفون إلى الأبد.
إن الإصرار على هذه المقولات عند أيٍّ من الأطراف سيجعل المستقبل بين خيارين أحدهما يؤدي إلى الآخر، الأول هو (اقتتال طويل الأمد)، والثاني الذي يوصل له الأول هو (حل لا يرضي أيّ أحد) لكنه يأتي بعد الانهاك الكامل للجميع لصالح طرف ثالث دولي أو إقليمي وليس سورياً بالتأكيد.
إن الثقافة الرائجة اليوم هي ثقافة بناء الجماعات أو الأنظمة الشمولية، وليست ثقافة بناء الدولة التي تتقبل اختلافات أبنائها جميعاً مهما كانت حادة، وتجعل من هذه الاختلافات دافعيةً حيوية فيها، تجعلها مضماراً للتنافس لكسب ثقة الجمهور (الشعب) وليس لإقصاء من لا يؤمن بالأهداف التي سفكت من أجلها الدماء كما يدعي الجميع على أطراف هذه الدولة.
إن المحيط الحقيقي لبناء الدولة هو المساحة الواسعة في المنتصف التي تمتد بشكل متصل حتى أقاصيها، وليست في الهوامش المتباعدة التي تتخندق في زواياها الضيقة، ولن تنتج أي حرب أو ثورة انتصاراً كاملاً إلا وقد انتجت استبداداً جديداً باسم القيم الجديدة التي حملها الثوار، وإنما تكون الانتصارات الحقيقية هي في تبني الاختلافات وبناء التوافقات وتقبل الجميع، والإصرار على المشتركات وتفهم النقائض على أنها تنوع لا بدّ منه من أجل بذل الجهد والعمل ليكون كلُّ فريق الأكثر إقناعاً والأكثر تشاركية مع الآخرين، تجمعهم مصلحة الوطن ورفاه أبنائه.
الدولة لا تبنى بالإقصاء، وإنما تبنى بالتحالفات والتوافق بين أبنائها، إننا نبني جماعاتنا وأحزابنا وانتماءاتنا من أجل أن نجد لنا مكاناً في الدولة إلى جانب الآخرين، لا من أجل أن نكون نحن فقط الدولة والوطن.
المدير العام | أحمد وديع العبسي