سليم أبو رشيد |
سطر التاريخ أسماء عدة كانت رمزاً في أفق النضال الفكري الإسلامي، ويبرز من بينهم نجم علي عزت بيجوفيتش ذلك المفكر والفيلسوف والزعيم السياسي الذي اختير رئيساً للبوسنة والهرسك بعد استقلالها في نهاية القرن العشرين، الحاصل على شهادة الدكتوراه في الحقوق والمناضل ضد الحكومة الشيوعية منذ نشأتها، وكان قد اصطدم بالسلطة مبكرًا بسبب أنشطته الفكرية الإسلامية المغايرة للمواقف الشيوعية الحاكمة في يوغسلافيا التي كانت جزءًا منها آنذاك، حيث انضم في شبابه إلى منظمة الشباب المسلمين التي تأسست في سراييفو على غرار حركة الإخوان المسلمين في مصر، واشتهر علي عندما ألف كتاب “البيان الإسلامي” الذي جاء رداً على كتاب “البيان الشيوعي” لصاحبه كارل ماركس، ممَّا أدى إلى اعتقاله من قبل الشيوعين، حيث حُكم عليه بالسجن لمدة أربع عشرة سنةً، قضى منها خمس سنوات، وعُرض عليه خلالها أن يوقع على استرحام يخرج بموجبه من السجن بشرط إيقاف نشاطه الفكري والسياسي، فأبى إلا أن تظل هذه الروح حرة أبية على الخنوع، وملأ سنين سجنه الخمس بالتدوين والتفكير والكتابة، وتوج أعماله بنشر مذكراته التي جمعها في كتابه “هروبي إلى الحرية”.
أسهب ذلك النجم بالحديث حول الإسلام السياسي وقال إنه لم يأخذ اسمه من قوانينه ولا نظامه ولا محرماته، ولا من جهود النفس والبدن التي يطالب الإنسان بها، إنما من شيء يشمل هذا كله ويسمو عليه، من لحظة فارقة تنقدح فيها شرارة وعي باطني، من قوة النفس في مواجهة محن الزمان، من التهيؤ لاحتمال كل ما يأتي به الوجود من أحداث، من حقيقة التسليم لله، إنه استسلام لله والاسم: إسلام.
وقد أدرك “بيجوفيتش” مبكراً البعد المعرفي الكلي والنهائي بين المنظمات الفكرية الغربية على خلاف باقي المفكرين المعاصرين الذين يكتفون بذكر أفكارها الفلسفية بعرض محايد منعزل، فقد قام بدراسة المدارس الرأسمالية والاشتراكية والنازية، فأعطى لنفسه مخرجات فلسفية تتسم بالموضوعية والدقة، وقد كان قادراً على استيعاب كل تلك المعلومات وتصنيفها وتوظيفها توظيف الملم بالعلوم الذي يقف على أرضية فلسفية راسخة ويطل على الآخر فيدرك جوهر النموذج المعرفي الذي يهيمن عليه.
فنراه يتحدث بطلاقة غير معتادة عن الفلاسفة الألمان والفرنسيين والملاحدة والوجوديين، وذلك في سطور قليلة تبين مدى استيعابه لرؤاهم الفلسفية، وكذا مدى وصوله إلى أعماقها وبنيتها المادية العدمية المدمّرة، أو بنيتها الإيمانية الكامنة.
ولعلّ أهم ما يميز مفكرنا معرفته الواسعة بالنظام الرأسمالي رغم حياته في ظلال الماركسية والاشتراكية، فقد أدرك منذ البداية أننا لا نتعامل مع نظامين مختلفين، إنما نتعامل في واقع الأمر مع نموذج معرفي واحد كامن يأخذ شكلاً اشتراكياً في حالة الاشتراكية، وشكلا ًرأسماليا في حالة الرأسمالية، وأن هناك رؤية واحدة وراء كل تلك المنظومات المتصارعة المتنازعة.
وقد استرسل بالبحث في تفسير ظاهرة الإنسان في كل تركيبتها، هذه التركيبية المرتبطة تمام الارتباط بثنائية الإنسان والطبيعة، وهي نقطة انطلاقه والركيزة الأساسية لنظامه الفلسفي، وقد توصل إلى إدراك هذه الوحدة الكامنة وراء التنوع لأنه استخدم نموذجاً تحليلياً معرفياً مركباً.
فقد أدرك البعد لتلك الظواهر التي يدرسها، سواء أكانت نظرية التطور أم الفلسفة العدمية أم العقيدة الإسلامية.
ودراسة البعد المعرفي والنهائي الكلى هو في نهاية الأمر إجابة عن سؤال أساسي وهو: ما الإنسان؟ والإجابة عن هذا السؤال هي التي تحدد طبيعة النموذج الحاكم. واستخدامه النموذج كأداة تحليلية مكّنه من الربط بين ظواهر قد تبدو كأنها لا علاقة للواحد منها بالآخر، بل متناقضة، ظواهر لا يمكن الربط بينها إن اتبعنا منهج الوصف الموضوعي العادي. فبيجوفيتش يربط بين كل من الدين والأخلاق والفن والحرية وذلك باستخدامه النماذج المركبة.
وكان لا بدّ لكل تلك الأعمال أن تتوج، ولكل تلك الأفكار أن تلألأ ولتلك النظريات أن تزين وجاءت الظروف لتهيئ له تلك الفرصة ليجمع خلاصة فكره وزبدة معتقداته فسطر ” هروبي إلى الحرية “
كان “هروبي إلى الحرية” عبارة عن أفكار وخواطر متفرقة، عبر فيها عن طموحات المسلمين البوشناق وباقي العرقيات في البوسنة والهرسك، وجمع فيها خلاصة توجهاته وحشداً هائلاً من التأملات والاعتقادات في شتى المواضيع السياسية والفكرية والفلسفية التي ميزت فكره المتفرد والمختلف.
وأعطى كتابه مثالاً للإنسان المسلم المثقف المنفتح على العالم، والقادر على الاندماج مع الآخرين، القادر على فهم العالم بشكل صحيح، فهو يعطي للأدب حق قدره ويعطي للأخلاق حق قدرها، فقد أعطى بكتابه مثالاً للشخصية الإسلامية الفريدة لدرجة الندرة، شخصية تكون مثالاً لتشكل التيارات الإسلامية الرائدة المترفعة عن التيارات الموجودة.
عمل المفكر على تجميع قصاصات لملخصات عدة كانت حصيلة تجاربه وقراءاته فكان كتابه يدور حول نقاط متفرقة لم تسمح له سنون الاعتقال الخمس من جمعها وجعلها في نسق كتاب واحد حتى أصبح أقرب لنوع من أنواع الكشكول، فليس له هدف محدد بقدر ما يستعرض نقاطاً تنير دروباً لم تكن لتبصرها العقول العربية.
كما أكد الكاتب على مجموعة مفاهيم تخدم الإنسان الذي قد يتعرض لمثل حالته في الاعتقال من استثمار للوقت ونهم للقراءة وتطوير لمهارات الكتابة وفضل الصيام والروحانيات.
وقد تحدث في كتابه عن عدة أفلاك في ستة فصول وملحق، فكان له قسم عن الحياة والناس والحرية وقسم عن الإسلام وقسم عن النازية وآخر عن الفاشية وبعض الحقائق التي لا يجوز نسيانها، وقسم للتعليق على كتابه الآخر “الإسلام بين الشرق والغرب”، وعن نظرية الطريق الثالث التي يضيفها المؤلف إلى كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب”، وملحق عن رسائل من أولاده له أيام سجنه.
وابتدأ حديثه في الفصل الأول عن الحياة والناس والحرية وذكر أن فقدان أسباب ومحفزات العيش وما يسعى الإنسان لأجله يعني الموت، وقد تحدث عن هيجل وآرائه التعميمية في كتابه فلسفة التاريخ، وعن ازدراء هيجل للهنود والصينين والزنوج، ويرد المؤلف على أشكال هيجل بأن الوصف لا يطابق الموصوف كفرد لا كشعب، لأن التعميم غير مقبول.
ويسترسل بذكر تعليقات وتلخيصات على شكل عناوين ذات حس انطباعي أو حكمة أو ملاحظة.
وقد استعرض في الفصل الثاني الدين والأخلاق وذكر الدين بوصفه ظاهرة تاريخية له جانبان:
جانب التعاليم وهي وحي إلهي، وجانب عن التجربة وهي من عمل الإنسان، فالله يعلن الدين والناس يطبقونه، وتدور الأفكار حول الأخلاق السمحة التي تتجلى في الدين الحق.
وأما الفصل الثالث فكان بعنوان ملاحظات سياسية وتكلم فيها عن إلغاء القوانين الإلهية التي وضعها الله سبحانه وتعالى ومخاطرها ومضار إلغائها.
وقد قام بتصنيف وتقسيم أمريكا شمالاً وجنوباً، فأمريكا الجنوبية في الغالب كاثوليكية والشمالية بروتستانتية، وقال إن أماكن البروتستانت أكثر انفتاحاً من أماكن الكاثوليك ويذكر الإشكاليات التي حدثت حول إسقاط حكم الإعدام.
ولم يهمل الحديث عن الحضارات وصراعها والدول وسباق الهيمنة بينها، حتى أنه حلل طبيعة الشعوب قبل دخولها في أبواب التاريخ بمرحلة الحضارة وما بعدها، وأوضح كيف يكون الترف سبباً رئيساً في زوال الأخلاق، كما بعض الصفحات للحديث عن الديمقراطية.
والفصل الرابع كان بعنوان هامش على كتاب “الإسلام بين الشرق والغرب”، قام فيه بسرد اختصار لأهم محتويات الكتاب بعناية التوجيه والتعامل السهل مع أهم أفكاره، وعرض فيه أهم آراء الفلاسفة في بعض الموضوعات المحورية كالثقافة والحضارة لدى هيغل مصير الدولة عند أفلاطون
كما وقد تكلم عن انتشار الاشتراكية والديموقراطية في أوروبا وفي أمريكا الجنوبية، وانتشار الديانات فيها أيضاً.
والفصل الخامس كان عن الشيوعية والنازية وبعض الحقائق التي لا يجوز نسيانها، وتكلم في مطلعها عن الإعلان الذي أذاعه الجنرال الروسي عند احتلال برلين الذي يوضح همجيتهم وتوحشهم، وتكلم عن بعض أفعال الشيوعيين السوفييت والنازيين الألمان، وذكر بعض الأمثلة من كتاب “البقع البيضاء” التي تفضح الاشتراكية في روسيا والصين، وقد تكلم عن أساليب معسكرات الاعتقال الألمانية والروسية.
وإننا نلاحظ أنه قد كثف المعاني في الفصل السابق إلا أنه توسع في الفصل السادس بذكر ملاحظات عن الإسلام وتكلم فيه عن الهزائم والخسائر التي ألحقناها بأنفسنا وعن ظهور علم الكلام وعن تأثير إغلاق باب الاجتهاد على الأمة.
وقد اختتم كتابه بملحق من الرسائل التي وصلت إليه من أولاده أثناء سجنه تمثل هروبه العاطفي وظروفه وأسرته وحريته اللامحدودة وهو في السجن.
حاز بيجوفيتش على العديد من الجوائز والأوسمة التي لخصت جزءاً من نضاله الفكري والسياسي، ومنها جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، وجائزة مولانا جلال الدين الرومي لخدمة الإسلام، وجائزة الدفاع عن الديمقراطية الدولية، وقد اختير عام 2001 الشخصية الإسلامية لجائزة دبي الدولية للقرآن الكريم باعتباره من المفكرين الذين أسهموا بدعم الفكر الإسلامي.
ولعلّ من الضروري أن يتمعن القارئ بكتابه السابق “الإسلام بين الشرق والغرب” قبل الخوض في غمار “هروبي إلى الحرية” حتى يعي تسلسل سير الأفكار، وكما اختصر المفكر جاسم سلطان معظم أفكار علي عزت بيجوفيتش في أوائل العقد الماضي في سلسلته أدوات النهضة، من قوانين وسنن كونية ومعلومات لا يجب على المثقف الجهل بها، ولم ينسَ المفكر طرح أفكاره بأسلوب يتناسب مع جميع شرائح القراء فقد احتوى زخمًا هائلاً من المعلومات بأسلوب مبسط لين، لكنه لم يوفق في الترجمة حق التوفيق، ومن أشد الإجحاف تقييد كتابه ببضعة أسطر مقابل الخوض في غمار تجربة عميقة مع قامة من قامات الأمة …