إنَّ تحالف النخبة التقليدية مع النظام الحاكم في الشرق جعل العداء للنخبة مضاعفاً عمَّا هو عليه في بقية بلدان العالم، فهي ليست منفصلة عن الجماهير فحسب، بل وتعمل ضدها من أجل مصلحة ضئيلة جداً ومحدودة جداً، وتجعل من نفسها حصاناً تمطيه الأنظمة الفاسدة لترسخ حكمها وإعادة إنتاج نفسها كأنظمة تُعبر عن تطلعات شعوبها التي من المفترض أنَّها مُمثلة من هذه النخبة.
بينما مثَّلت الشعبوية، حالة الجماهير بوعيها الطفولي ونقائها الأول، بحماسها واندفاعها وثوراتها الجامحة، هذه الجماهير التي تريد أن ترى في الحكم أشخاصاً يشبهونها حتى بحماقتهم، وهذا ما أتقن العزف عليه نظام كالنظام المصري الحالي، ولكن على آلات عسكرية وأوركسترا يقودها الجيش وقوى الأمن في استنساخ جديد للتجربة اللينينية. (الاعتماد على القوة والشعب ثم استعباد الثاني).
الثورات اليوم هي ثورات ضد النخب، ضد الطريقة الاستبدادية التي وصل إليها العالم، ثورات ضد الأقلية من قبل الأكثريات المهمشة، والنخبة هي إحدى الأقليات التي بدأت الشعوب تكره وجودها سواء في أنظمة الحكم التقليدية التي تماهت مع الاستبداد حتى خاضت الحروب ضد شعوبها، أو تلك الأنظمة التي أتقنت لعبة الديمقراطية لتجعل الشعب يبدو كالمعتوه وهو ينتخب جلاديه أو أهون الشرور في كل مرة.
إنَّ هذا العيب في الديمقراطية بحاجة إلى علاج، ولا يمكن للديمقراطية أن تستمر طويلاً وهي تقع ضمن نطاق السيطرة، لأنَّها مع الوقت ستغدو أداة مفرغة من محتواها تماماً، وستعيد الشعور للناس بأنَّ ملكيات العصور الوسطى ما زالت قائمة، ولم تتغير حقيقة إلا طريقتها في الحكم، لذلك ستجعل الشعوب من الديمقراطية أداة لتدمير كل شيء انتقاماً، عندما تُعطي صوتها للجحيم من أجل الفكاك والتخلص من القوى التي تتحكم بمصيرها، وهو ما بدأنا برؤيته بصعود اليمين المتطرف في مختلف دول العالم بدءاً من ترامب في أكبر الديمقراطيات وأعرقها على الإطلاق.
وهذا يُحتم على النخبة إعادة صناعة نفسها بالكامل، وليس إعادة تموضع أو تشكّل، لأنَّ وضعها الحالي صار مستفزاً للناس وغير مقبول في ظل ظهور قوى منافسة عليها أن تُعيد صناعة نفسها ضمن التيار الشعبوي الجديد لكي تحميه من نفسه، وتكفَّ عن التعامل بعنصرية مستترة واستعلاء مع بقية طبقات الشعب بوصفها الفئة المختارة التي لا يستطيع أحد أن يقوم بما تقوم به.
المدير العام | أحمد وديع العبسي