تُعرّف القومية بأنّها تشير إلى مجموعةٍ بشرية تشترك فيما بينها بمقوماتٍ كالأرض واللغة والعرق والجنس والدين، وبناءً على هذه المقومات يشعر كل شخص من هذه المجموعة بانتمائهِ إلى هذه القومية وبالتالي إلى الأشخاص الذين ينتمون إليها بالضرورة.
وللعرب لا شك قوميةٌ تمتلك كل المقومات المتعارف عليها، ولكن ما يميز هذه القومية أنّ الله قد كرمها في كل مقوماتها، فبعث منهم خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، وخصهم بدين الإسلام الذي هو دين الحق عند الله عزَّ وجل دون سواه، وزيادة في التكريم جعل كتابه القرآن الكريم بلغتهم فجمع لهم المجد من أطرافه.
ولكن كل ذلك كان مشروطاً بأن تذوب هذه القومية في قومية أوسع وأشمل هي الإسلام، ولكنه في الوقت ذاته ضمن لها الشرف والريادة على باقي القوميات المنصهرة معها في بوتقة الإسلام والتي تسمى اصطلاحاً ” العجم “، فاللغة العربية ضرورة لا بدّ منها لمن يدخل في هذه القومية الدينية الشاملة كونها لغة القرآن ولغة الأذان ولغة الأحاديث وكذلك الأدعية.
ولأِنّ العرب شعروا بالفخر جراءَ ذلك، شعرت بقية القوميات بشيءٍ من الدونية مما دفعها لتعويض ذلك بتطوير نفسها كنوع من إثبات الذات فظهر عبر التاريخ الإسلامي الممتد لخمسة عشر قرناً قادة جيوش وعلماء وأدباء كادوا أن يصبغوا التاريخ الإسلامي بصبغة أعجمية، في الوقت الذي شاهدنا فيه العرب ركنوا إلى لغة القرآن واكتفوا بهذا الشرف العظيم ناسين أو متناسين دورهم الريادي الذي يحتِّمَهُ الواجب المنطقي عليهم فاقتصر هذا الدور على القرن الأول الذي تلا العهد الراشدي ليتسيَّد بعدها الأعاجم جلَّ المشهد، ليصل الأمر مع بداية القرن الخامس عشر الميلادي إلى انتقال الخلافة الإسلامية بكاملها إلى يد العثمانيين الأتراك، ولم تقم بعدها للعرب قائمة وليخرجوا من المشهد التاريخي بشكلٍ كامل حتى بدايات القرن العشرين.
القرن العشرون حمل مع بداياته أمراً عظيماً جللاً ألا وهو الإعلان عن إنهاء الخلافة الإسلامية‘ وذلك عن عمر ناهز الثلاثة عشر قرناً من الزمان، وهو الأمر الذي ساهم فيه العرب بشكلٍ كبير من خلال ما يُعرف بالثورة العربية الكبرى الأمر الذي يمكن اعتباره المؤشر الأكبر على خروج العرب من سياق القومية الدينية ” العالمية ” إن صح التعبير، ليتقوقعوا ضمن قوميتهم اللغوية ” الضيقة ” من جديد.
كل ذلك يفسر ما وصل إليه العرب من هوانٍ وتهميش، فانسلاخ العرب من قوميتهم الدينية أعادهم إلى جاهلية ما قبل الإسلام حيث العرب واللاعروبة، يوحدهم اللسان وتفرقهم القبلية والغايات الضيقة، توحدهم الأرض ويشتتهم الكلأُ والمرعى، يوحدهم الدم ويعبثُ بهم الهوى، واليوم نراهم في جاهليةٍ مضاعفة حيث عربٌ بلا عروبة ومسلمون بلا إسلام.
ولعل ضيق الأفق جعل الذين حاربوا الخلافة العثمانية من العرب يفكرون بأنّ ذلك يخلصهم من تسلط العثمانيين على بلادنا العربية ويعيد للعرب مجدهم وعزتهم، وكان من الممكن أن يكون ذلك صواباً لو عادت الخلافة لأيدي العرب محافظين عليها متمسكين بوحدة أراضيهم وأهدافهم وتطلعاتهم، أما وأنها أعادتهم إلى جاهليتهم يكونوا بذلك أعادوا أنفسهم بسلاحهم وبإرادتهم قروناً من الزمن إلى الوراء وإن اختلفت التسميات والمصطلحات.
وهنا تقفِزُ للذهن مقولة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ” نحنُ قومٌ أعزنا الله بالإسلام “، وكأنها قاعدةٌ كان على العرب أن يفكروا ملياً قبل أن يخرقوها أو يعبثوا بها فكيف وهم ينسفونها نسفاً؟! ذلك ما أصابهم وأدخلهم متاهة الضياع والتشتت، وجرعهم مرارة الذُلِّ والوهن، فاحتُلَّتْ أراضيهم وانتُهِكَتْ حرماتهم وهانوا على الصغير قبل الكبير، وما زالوا يُمعنونَ في ضلالهم وتزيد فُرقتهم وتربو خلافاتُهم بشكلٍ مخيفٍ، فبعدَ أن حولهم الإسلام من قبائِلَ ترعى الغنم إلى أمَّةٍ تسوسُ الأمم، ها هم يعودونَ اليوم أسوأ مما كانوا قبل الإسلام ليُصبحوا أغناماً ترعاها الأمم.