تترد في أوساط النازحين السوريين في تركيا فكرة لازمتهم منذ أن وطأت قدم أول سوريٍّ نازح الأرض التركية قبل ست سنوات تقريباً مفادها: “أنَّ تركيا أخطأت بحق السوريين عندما اعتبرتهم ضيوفا لا نازحين، لتحرمهم بذلك من دعم الأمم المتحدة الكامل للنازحين كما في أوربا مثلاً من مسكن ودخل شهري يجعلهم في غنىً عن العمل والشقاء”.
في الحقيقة وللوهلة الأولى يبدو ذلك منطقياً إذا ما اعتبرنا حق اللجوء حقاً معتمداً لدى جميع الجهات الدولية حكوميةً كانت أم غير حكومية، فضلاً عمَّا يعنيه حق اللجوء من حصول الإنسان الذي خسر كل شيءٍ في بلده الأم على مقومات العيش الكريم دون عناء، وهو ما يعتبره تعويضاً متواضعاً عمَّا فَقَدَهُ، إضافة إلى أنَّ ذلك يجنبه مرارة الاستغلال الذي غالباً ما يتعرض له النازح في بلاد اللجوء على اختلافها.
ولكن لو نظرنا إلى الأمر من مقياس آخر لوجدناه مختلفاً بعض الشيء، فاللاجئون السوريون في أوربا اليوم على مذهبين لا ثالث لهما: فريق وضع لنفسه هدفاً وهو أن يغيِّر حياته للأفضل ويستفيد من لجوئه أيما فائدة، ويجعل منه منحة لا محنة، لذلك ومنذ لحظات وصوله إلى بلد اللجوء سارع لتعلم اللغة والبحث عن عمل ليستغني عن دعم تلك الدول، ويجعل من نفسه شخصاً فاعلاً في المجتمع الذي يعيش فيه مؤثراً فيه إيجاباً، وهذا الفريق على قلة عدده إلا أنه يعتبر أنموذجاً عن الإنسان السوري الحقيقي الذي لطالما كان جزءاً أساسياً من الحضارة الإنسانية على مرِّ العصور ومدعاة فخر للسوريين عموماً.
بينما على النقيض من ذلك نجد الكثير من اللاجئين السوريين اكتفى بما قدمته له دول اللجوء من خدمات، فركن إليها ليغرق في مستنقع الاستهتار واللامبالاة، وليقع فريسة الاكتئاب والأمراض النفسية، وإذا ما حاول الهروب من ذلك وجدناه متسكعاً في الشوارع يرتاد الملاهي والحانات، الأمر الذي من شأنه أن يخلق الكثير من المشاكل بين السوري والسوري من جهة وأحياناً بين السوري وأبناء البلد الأصليين من جهة أخرى تاركاً بذلك انطباعاً غاية في السلبية عنه وعن بلده سورية.
ولكن ماذا عن تركيا؟
تركيا هي صاحبة الحظ الأوفر من أعداد اللاجئين ” الضيوف ” السوريين على مستوى العالم، وهذا طبيعي بحكم الحدود المشتركة بين البلدين التي تمتد لما يقارب الألف كيلو متر، فضلاً عن سياسة الحكومة التركية التي انتهجتها منذ مطلع الثورة السورية وحتى فترة قريبة والقائمة على فتح حدودها أمام السوريين دون عوائق تذكر، ولكن المشكلة أنها لم تمنحهم حق اللجوء وأطلقت عليهم مسميات كالضيوف السوريين أو المهاجرين السوريين كمقاربة للمهاجرين والأنصار على زمن النبوة.
هذا الأمر كانت له منعكساته السلبية “كما يرى كثير من السوريين هناك ” على الوضع المعيشي للسوري، خاصة وأن تركيا تعتبر من البلاد ذات المستوى المعيشي المرتفع إذا ما قورنت مع بلد كسورية، هذا فضلاً عمَّا ترتب على ذلك من وقوع السوريين في تركيا فريسة الاستغلال سواء من قبل أرباب العمل أو من أصحاب البيوت المعدة للإيجار، وهذا الأمر وإن كان غير مقبول من الناحية الإنسانية لكنه أمرٌ متوقع وطبيعي في مثل هذه الظروف.
ولكن رغم كل ذلك نجد أنَّه ما زال هناك العدد الأكبر من السوريين موجود في تركيا وأغلبهم سنحت له فرصة الهجرة إلى أوربا، بل على العكس بدأت تسجل في الفترة الأخيرة حالات عودة لمهاجرين سوريين من أوربا إلى تركيا حتى بعد حصولهم على الإقامة، وهذا يقودنا إلى استنتاج ” أنَّ وضع السوريين في تركيا على قساوته وصعوبته أفضل منه في أوربا على رفاهيته وسهولته “؛ وذلك مردَّهُ إلى أسباب عدة منها التشابه الحضاري بين السوريين والأتراك، واشتراك الشعبين بالكثير من الأشياء وعلى رأسها الدين الإسلامي الذي يعد العامل الأبرز الذي منح السوري شعوراً بالأمان والاطمئنان على نفسه وعائلته، يُضاف إلى ذلك أن الظروف التي جعلت السوري يكد ويجاهد لتحصيل رزقه ومعيشته جعلته في الوقت نفسه يحافظ على كينونته ويشعر بإنسانيته كشخصٍ فاعل ومؤثر وليس عبئاً على أحد، فامتلأت المعامل التركية بالصناع والحرفيين السوريين، وانتشرت المحلات التجارية والشركات وحتى أُنشِئت المعامل والورشات السورية على امتداد الجغرافية التركية بصورة ملحوظة.
في النهاية قضية اللجوء سيف ذو حدين:
إما أن تجعل من اللاجئ إنساناً إيجابياً ناجحاً مبدعاً فيما لو قُيِّضَ له أن يستفيد منها فيرد بذلك الجميل الذي لوطنه الأم مرتين: مرةً حينَ أعطى انطباعاً جيداً عنه في بلاد الاغتراب، ومرةً أخرى حين تنتهي أزمة البلد فيعود إليه ويستثمر نجاحه هذا فيه، وفي الوقت ذاته يرد الدَين للبلد الذي استضافه وأكرمه ومنحه الأمن والأمان، فكان بذلك الرقم الصعب في معادلة اللجوء.
أو أن تجعل منه إنساناً سلبياً كلّاً على مولاه لا يقدرُ على شيء، فلا هو أدّى حق وطنه الأم عليه فكان سفيراً سيئاً لهُ، ولا هو كان وفيَّاً للبلد الذي احتضنهُ ومنحه الأمن والاستقرار الذي يفتقدهُ ويتمناه الكثيرون.