جاد الغيث |
في يوم الإثنين 20 كانون الثاني 2020 كان الجو باردًا وغائمًا، و(سلمى) ابنة الخمس سنوات في حضن أمها تنظر نحوي بعيون حزينة عبر نافذة سيارتهم (السوزوكي) المحشوة بالأغراض، وبينما بدأ المطر يهطل زخات خفيفة، بدأت (سلمى) تبكي وتسأل عن دميتها (لولو) التي دفنت تحت أنقاض بيتهم المهدم بفعل صاروخ روسي لعين.
بطرف كِمّ معطفها الأحمر الملطخ بالطين تمسح (سلمى) دموعها، ربما كانت دميتها جميلة جدًا أو باهظة الثمن، وربما هي دمية قماشية بسيطة محشوة بالقطن، ولكن (سلمى) لا تملك سواها الآن.
الأم تغري ابنتها بشراء دمية جديدة، و(سلمى) تريد (لولو) التي رافقتها ثلاث سنوات متتالية.
بررتُ بكاء الطفلة الحزينة بأنه بكاء الفقد المفاجئ الذي يقتلع القلب من مكانه، وتخيلتُ مئات الآلاف من الوجوه التي بكت بمرارة في الشهور الأخيرة بعد موجة النزوح من ريف إدلب وريف حلب الغربي الذي يتعرض يوميًا لقصف وحشي من قوات روسيا والأسد.
عند الساعة الثالثة عصرًا اشتد المطر، توقفت سيارة السوزوكي المحشوة بالأغراض، ونزل والد سلمى من السيارة وبيده غطاء بلاستيكي أزرق اللون، صعد فوق الأغراض وراح يغطيها بذلك الغطاء الأزرق (الشادر) ، بينما كانت السيارات الأخرى تمر على الطريق الرئيس المتجه لمدينة سرمدا وأطمة، الذي يتفرع لاحقًا لمخيمات عشوائية لا حصر لها، كل العابرين على هذا الطريق تركوا بيوتهم من شدة القصف والخوف من تقدم النظام إلى قراهم كما حدث في أواخر العام 2019، حيث استرجع النظام عددًا من قرى ريف إدلب، ودمر مدينة معرة النعمان تدميرًا هائلاً، وتقدم بعدها إلى سراقب وريف حلب الجنوبي والآن يقضم مناطق ريف حلب الغربي!
خطر لي أن أعد السيارات العابرة المحملة بالنازحين، خلال ربع ساعة من الوقت، أحصيت ما يزيد عن (120) سيارة من أنواع وأحجام مختلفة مرت بالقرب من سيارتنا المتوقفة لتغيير دولابها الخلفي!
فجأة لمحت إشارة اتصال بالإنترنت (عشر دقائق مجانية من شبكة السلام نت)، ابتسمت بمرارة، تسع سنوات مرت لم نعرف فيها أدنى درجة من درجات السلام، صارت الكلمة بلا روح، كلمة سلام تشبه كل الكلمات المأساوية الأخرى التي يطفح بها قاموس مفردات الشقاء في حياتنا.
توقفت عن فلسفة المعاني في رأسي، انطلق الإنترنت قويًا، ودخلت صفحة الدفاع المدني، وقرأت بعيون يقتلها الأسى:
“في يومها السادس حملة القصف الممنهج من قوات النظام وروسيا على الريف الغربي لمدينة حلب تزهق أرواح (25) مدنيًا جلهم من الأطفال وتوقع (49) جريحًا، حيث تم استهداف (16) نقطة ما بين قرية وبلدة بما يقارب (28) غارة جوية بالصواريخ الفراغية و (14) برميلًا متفجرًا، بالإضافة إلى عشرات القذائف المدفعية وصواريخ الراجمات”.
أنهى (أبو سلمى) تغطية سيارته، توقفت (سلمى) عن البكاء، ازداد المطر غزارة، الهواء عاصف يوقع أرضًا بعض الحاجيات من السيارات المسرعة نحو المجهول، إحدى السيارات تدحرجت منها أدوات المطبخ، طناجر متعددة الأحجام، صحون ميلامين.. وسقطت محتويات كيس الملابس، وازداد الوضع سوءًا مع مرور مئات السيارات العابرة المحملة بالأطفال والنساء والشبان، بعضهم يلوح لبعض في صورة تعاطف بدون كلمات، كأن تلويحة اليد تشد من عزم الطرف الآخر، والوجوه كلها تحمل معي (كلنا في الشقاء سواء)!
أنهى أخي إصلاح الدولاب الخلفي ومضت السيارة التي أنزح بها في طريقها إلى بيت خالي في سرمدا، بيته كبير يتسع لخمس نازحين هم أفراد عائلتي، إلا أن الكثير من النازحين لا فراش لهم سوى الأرض الطينية، ولا غطاء لهم سوى زخات المطر!
غابت صورة (سلمى) ووالديها بين زحام سيارات النازحين، تلك الطفلة البريئة التي لم تتوقف دموعها حزنًا على فراق دميتها، وغابتْ عنا اليوم الطفلة (صفاء) من البرد وانتقلت إلى دفء السماء، وبين حالة سلمى وصفاء يتسع أخدود الألم في نفوسنا فوق ما نعايشه على أرضنا التي ما تزال تغادرنا يومًا بعد يوم.