علي سندة |
(أموت وما أشحد) مقولة ربما سيسجلها التاريخ من طفل سوري لم يبلغ العاشرة من عمره انتشرت منذ يومين على وسائل التواصل الاجتماعي، قالها وهو يجمع (الكراتين) ليبيعها بدل التسول أو سؤال الناس في وضع اقتصادي مأساوي يجتاح العالم بسبب فايروس كورونا المنتشر، فضلاً عن كورونا الأسد الذي جعل سورية أفقر بلد في العالم بحسب التصنيف الأخير.
السؤال الذي راودني عند مشاهدتي ذلك الطفل، كيف تعلم هذه العفة والاعتماد على الذات في ظل فقر وفاقة كبيرين؟ حتمًا تربَّى على ذلك منذ نعومة أظفاره ورضع لبان الرجولة واضطرته الظروف إما لمساعدة أهله أو إعالة نفسه وأخوته إن كان أهله موتى أو أسرى، لكن تذكرت موقفًا مررت به منذ أيام سيُعطينا الصورة المغايرة.
منذ بضعة أيام زمن كورونا في تركيا، صادفت موقفًا من بعيد اكتملت ملامحه عند وصولي إلى موقعه، وأول ما تذكرته حينها، قاعدة البلاغة العربية: “لكل مقام مقال، والسياق يستجيب لمقتضى الحال” هذا ما تبادر إلى ذهني عندما رأيتها تتحضر لبدء عملها عند إشارات المرور.
ربما أسلوب التسول بطرق مختلفة عند إشارات المرور صار مألوفًا، ولم يعد يلقى قبولًا وتعاطفًا لدى راكبي السيارات أثناء انتظارهم اللون الأخضر للعبور، لكن خبرة المتسول في استغلال الظرف والوقت أعطت بُعدًا آخر في كسب التعاطف، وهنا وجه الشاهد في البلاغة التسولية، إذ إن طرق التسول عند الإشارات الضوئية أو مفارق الطرق كثيرة، إلا أن الأسلوب الذي رأيته مؤخرًا مطورٌ استندت المتسولة التي رأيتها إلى عدة عوامل في تطويره استخلصتُها من المشهد هي: (وجود إشارات ضوئية تساعد المتسولة، ووجود حاوية قمامة ملاصقة للإشارات، واستغلال الزمن وهو الحملة الوطنية التركية لدعم متضرري كورونا ما يؤدي إلى كسب عواطف الناس وراكبي السيارات المنتظرين، وأخيرًا أسلوب المتسولة الخاص الذي وظف كل تلك العوامل).
يتجلى ذلك الأسلوب الخاص، عندما رأيتها من بعيد تحمل طفلًا وعلى كتفها كيس قماشي متسخ، كانت تجري مسرعة نحو الحاوية الموجودة عند الإشارات، وعند وصولها تلفتت لتتأكد من عدم وجود سيارات واقفة، عندها وضعت الطفل وأجلسته على قطعة قماش بجانب الحاوية لا تقيه برد الشارع، وأخرجت من الكيس الذي أعدته كسرات خبز متسخة ونثرتها أمامه على قطعة القماش مع نصف جزرة متسخة أيضًا، وأمسكته خبزة يابسة فبدأ يأكلها بفطرته ولم يتجاوز العامين حسب تقديري، وبدأتْ بالبحث في الحاوية واستخراج أشياء ووضعها أمامه لتطعمه من الحاوية لزيادة الاستثارة العاطفية! وهنا كانت السيارات متجمعة لاشتعال اللون الأحمر، فصار الناس ينزلون مستغلين الانتظار على الإشارة لمساعدة الطفل البريء وأمه، تارةً بإعطاء الأم المال بمبالغ جيدة، وأخرى بنزول سيدة ومعها كيس مليء بالأغذية ربما اشترته ليقيها حجْرًا طويلًا جراء تمدد فايروس كورونا، فأعطته لها وركبت سياراتها وهي متأثرة جدًا.
كنت واقفًا أتابع كأن معي سيارة أنتظر اللون الأخضر للعبور، فتحت الإشارة عدة مرات ولم أتحرك لأنني مشهدوه من المشهد أمامي ومن تفاعل الناس الذين أخذتهم العاطفة التي لعب بها الزمان والمكان والطفل دورًا كبيرًا في تحفيزها، ولم يشاهدوا كواليس المشهد قبل إخراجه لهم بتلك الصورة العاطفية، مررت من المكان نفسه قي اليوم التالي فوجدتها على الحالة نفسها مع الطفل أمام الحاوية ممسكًا قطعة خبز أخرى يأكلها، إنها بالفعل تجارة المتسول زمن كورونا!
إن أكبر ضحية في التسول هو الطفل سواء بلغ سن الرشد أم لم يبلغه، وقصة الطفل البريء أمام حاوية القمامة الذي استخدمته أمه سيتذكر حين يكبر أضواء السيارات التي كانت بمحاذاة وجهه عند جلوسه أمام الحاوية حيث إشارات المرور كأنه كيس قمامة مرمي، ووقتها سيكون أحد شيئين: إما مطورًا لأسلوب آخر في التسول اتخذته أمه يومًا، وإما جاعلًا من تلك المشاهد القاسية نقطة تحول وانطلاق نحو التغيير، يومها سيقرأ من كتب التاريخ السوري ما قاله طفل الكرتون: (أنا أموت وما أشحد)، وسيقول في نفسه: أنا أيضًا أموت وما أشحد وكنت يومها ضحية.