روعة ناعس |
أركضُ مسرعةً إلى البيتِ وبين يديّ الكثير من الأكياس، فالمطر على وشك الهطول.. لقد كان يوماً مزدحماً، فالبازارُ هذا الأسبوع مليء بكلّ شيء والأسعار رمزيَّة..
تقعُ بِضعةُ أكياس من يدي فيمسك صبيّ بها ويقول لي: “خالتي عطيني خمسين ليرة وبوصلّك كل الأكياس لوين ما بدك”نظرت إليه بعطف، يبدو أنَّه يريد أن يشتري قطعة من الشوكلاته بها..
ابتسمت له موافقة على كلامه وأعطيته 75 ليرة بقية نقودي التي معي بعد أن نفذت، على أن يحمل كيسين وأحمل كيسًا بيدي..
بادلني الابتسامة وقال لي: “دقيقة خبر أمي وراجع..”يركضُ مسرعاً إلى داخل المخيم، أنتظره دقيقة فأشعر بالملل لألحق به إلى المخيَّم الذي دخله..
إنَّه المخيَّم الذي أمرُّ من جانبه كلَّ يوم، ويفصلني عنه خيم كبيرة فقط..
بصمات كثيرة تدلُّني على الصبي، فملامحه أكاد أحفظها من الجزمة الحمراء التي يلبسها وكنزته الخضراء ومعالمه الطفوليَّة..
أمَّا البصمة الأكثر وضوحاً هنا فهي لأقدامه، فالتراب مازال طازجاً بعد مطر غزير من ليلة البارحة وآثار الأقدام لا تمحى هنا بسهولة!
أتفاجأ بآثار كثيرة على أرض هذا المخيم، جُلها للأطفال الصغار وأقلُّها للكبار، أما بالنسبة إلى غير الإنسان فبصمات الأغنام والدجاج فهي الأكثر..
فتاة صغيرة تعترضني ترتدي من الثياب ما يحميها من لسعة البرد ويقي جسدها النحيل من عاصفة هوجاء تجتاح خيامهم، تسألني بلطف: شو بدك يا خالة؟
وصبيّ آخر أراه يرمقني يرتدي بنطالاً أسود اللون مشقوق من الركب، أما كنزته الربيعية فبالكاد تصل إلى كفّ يديه، هنا يقشعرّ بدني من البردِ نيابة عنه وأقف عاجزةً عن قول أيّ كلمة..
هنا مأساةٌ تفوقُ الوصف ويحتاجُ الإنسانُ العاقلُ إلى مئة عقل ليستوعب ما يجري، كأنَّ تلك الأرض أرض غير أرضنا، وهؤلاء السكان هم ليسوا منَّا ولكن المصيبةَ تكمن أنَّهم منَّا.
في مكان ليس بالبعيد أشاهد مجموعة من أهل هذا المخيم يصطفون وراء بعضهم البعض دون مزاحمات، ويستلم كلّ واحد منهم علبتين من التمر.
يبدو لي الداعم واضحًا فهو يأخذ صورًا كثيرة مع معظم الناس هنا.
طفلة صغيرة يجذبني بكائها، أقترب منها فتبدو لي بطول الكفّ أو أطول قليلاً كأنَّها ولدت للتو.. وتسرقني الأفكار وأقول في نفسي: إنَّ تغذيةَ الأمّ القليلة هي السبب الأكثر منطقية..
أتتبع بصمات رائحة تدخل إلى أنفي وأنجح في الوصول إلى مصدر الرائحة، وإذ بقدر أسود من شحار الحطب، أسترقُ نظري إلى ما بداخله، وإذ بدجاجة تغلي على كمية كبيرة من المرق..
يا إلهي كلُّ شيءٍ هنا يجعلني مذهولة! أنظر إلى اليمين وإذ بغرفةٍ صغيرةٍ محاطة بأربعة أغطية، وبجانبه إبريق ماء، يبدو أنَه دارُ الخلاء..
أنظرُ إلى اليسار فأرى الأطفالَ يتسارعون في لملمةِ كراتين علب التمر بعد أن ذهبت المنظَّمة..
ألتفت إلى الوراء وإذ بحبل طويل من الغسيلِ واقع على الأرضِ من شدة الهواء.. يا لكمية التعب هنا عليهم إعادة غسيل تلك الثياب!
حزن كثير ينتابني، ألتفت إلى أمامي وإذ بالصبيِّ يركضُ نحوي ويصرخُ من بعيد: “خالة دورت عليكِ كتير بالشارع وين رحتي!”
أنظرُ إليه وأقول: “أنت وين ساكن روحي!”..
يُجيبُني: “بهي الخيمة خالة” ويشير بإصبعهِ إلى خيمةٍ بعيدة..
أنظرُ إلى الكيسينِ في يديه، أُعطيه كيساً منَ التفاحِ كنتُ قد اشتريته، وأمشي وأرددُ كثيراً: “الحمد للهِ الذي فضَّلنا على كثيرٍ من عباده تفضيلاً..”
1 تعليق
هنادي باطوس
رووعة … وصف المأساة بالسهل الممتنع
اللهم فرجك يارب😔