د. ونيس المبروك |
هناك مسلك عجيب في حياة الفرد والجماعات، يتعلّق بسنّة التغيير والإصلاح والتجديد.
كثير من الناس يخافون من التجربة والتغيير، ويأنسون بما اعتادوه من أوضاع، ولا يثقون إلا فيما جرّبوا من أدوات، ويجدون لهذا المسلك كثيرًا من المسوّغات.
فمن عجائب النفس الإنسانيّة، أنّها لا تعزم ولا تنهض للتغيير عند بدايات الخلل وانعدام الفاعليّة، إنّما تعزم على التغيير عند وقوع الكارثة، وسقوط السقف.
الإشكال الكبير ليس في ذلك! إنما في مرحلة الأزمة وتصدّع السقف وانعدام الفاعليّة؛ هي من المراحل المتأخّرة التي يتعذّر فيها الإصلاح الحقيقيّ.
رأيت هذا في كثير ممّا يعرض عليّ من المشاكل الزوجيّة، وحالات الطلاق.
فعناد أحد الزوجين ورفضه لتغيير سلوكه في بدايات الخلل والشقاق، يجعل لمّ الشمل والإصلاح بينهما، أمرًا متعذّرًا أو مستحيلاً.
رأيت هذا في سلوك بعض التجّار والمؤسّسات التي تتناقص مبيعاتها، وتخسر بعض عملائها، لكنّها لا تحاول التغيير إلا بعد أن تتجاوزها حركة السوق، ويسقط على رأسها السقف.
أمّا في أوساط الدعاة، والعلماء، والحركات الإسلاميّة، فالأمر أشدّ تعقيدًا، وأخفى سبيلاً!
على مستوى التنظير والكلام، ستسمع ترحيبًا بالتطوير، وحفاوة كبيرة بالتجديد، وشعارات ودعاوى عريضة بالرغبة في التغيير، أمّا على مستوى المبادرة المعلنة، والعمل الجادّ، فإنّ الأمر يُقابل بكثير من المعوّقات الثقافيّة والسلوكيّة والاجتماعيّة..
حضور عنصر ” المُقدّس” له تأثيره الأكبر في معادلة التجديد والتغيير، لأنّ الفقيه أو العالم يتوهّم أنّ ما استقرّ في مذهبه من آراء واجتهادات، وما عرف عنه من مواقف وتوجيهات؛ هو دينيّ مقدّس، لا يجوز مراجعته ولا التراجع عنه، لأنّ مراجعته جهل وابتداع، والتراجع عنه تخاذل وضياع!
ويزداد الأمر ثقلاً وصعوبة إن كان للفقيه جمهورًا من الأتباع والمعجبين، تأنس نفسه بكثرتهم، وتركن لإعجابهم، ويشفق عليهم من (فتنة) الرأي الجديدٍ!
أمّا في عالم الحركات الإسلاميّة، وأوساط الدعاة، فإنّ مسالة التجديد والتغيير تزداد صعوبة وتعقيدًا!
بعض المنتسبين يعيشون حالاً من الوهم؛ إذ ينظرون إلى تعاليم المؤسّسين على أنّها ” ثوابت”، ويتعاملون مع أشكال التنظيم على أنّها “دعوة”، ويتعاملون مع أوليات المراحل السابقة على أنّها ” فكر”.
ولك أن تتأمّل عمق وحمولة هذه المصطلحات (ثوابت – دعوة – فكرة) وما تتركه من حمولة ثقافيّة ونفسيّة ومعنويّة تقف دون أيّ محاولة للتغيير، ويضرب – سرًّا وعلنًا – حول صاحبها سياجًا أخلاقيًا محكمًا.
فمن بدّل التعاليم فقد هدم “الثوابت”…
ومن ترك شكل التنظيم فقط سقط من “الدعوة”،
ومن أعاد ترتيب الأولويّات فقط اخترق “الفكرة”،
هذه ليست دعوة للتمرّد، أو بثّ الفوضى والاستعجال، بل هي تثوير للعقول، ونداء صادق لحماية مكتسبات الدعوة، وجهود أهلها وتضحياتهم.
لقد جاء النبيّ الأعظم عليه وعلى آله الصلاة والسلام، بهذه الدعوة الربّانيّة المباركة، وقدّم للإنسانيّة بناء حضاريًّا فريدًا، لكنّه لم يكن يلقي ببذور دعوته، وأسس حضارته عبثاً دون توفير منهج متكامل يضمن (الحماية والفاعليّة)، بل جعل الاجتهاد مفتوحًا لكلّ التدابير والوسائل، لحماية منجزات دعوته وتضحيات أصحابه.
وعندما أصاب أمّتنا التخلّف فإنّها لم تعد تلقي بالاً لهذا المسلك المهمّ، والمنهج القويم، فكلّ ما يهمّنا العمل، وإن لم يصل لغاياته، أو لم يدم،
ولعلّ هذا ما يفسّر لنا عدم وجود “تناسب” بين الجهود والتضحيات المبذولة، وبين النتائج والمحافظة على المنجزات السابقة.
وهكذا ندور في حلقة مفرغة من البذل الصادق، ثمّ الانقطاع، ثمّ الاستئناف من جديد، ثمّ ضياع الجهود من جديد، ثمّ سجن وقتل وتهجير، ثمّ الاستئناف من جديد…
إنّ لله تبارك وتعالى في هذا الكون سننًا ثابتة، لا تتخلّف محاباة لنبيّ أو وليّ، ويتساوى فيها المسلم والكافر، والبرّ والفاجر…
فكلّ أمّة أقامت نهضتها وبناءها الحضاريّ، ثم وضعت التدابير للمحافظة عليه، وحماية مرجعيّته، ثمّ تطويره ليواكب حركة الحياة، فإنّ الله تعالى يمكّن لها في الأرض، ويسخّر لها ما في البرّ والبحر.
وكلّ أمّة أقامت نهضتها وبناءها الحضاريّ، ثمّ لم تضع من التدابير والاجتهادات ما يحافظ على إنجازها ويحمي بناءها ومرجعيّتها، ومواكبة حركة الحياة، … فإنّ مآلها التراجع، ثمّ الضعف والتخلّف والهوان.
الموضوع ذو شجون، لا تفي هذه المقالة لشرح بعضها، ولكنّ عرضه على أصحاب العقول الحرّة قد يشجّع على طرح التساؤلات، فالسؤال مفتاح العلم. ولكلّ وجهة هو مولّيها.