إن إعادة آيا صوفيا لمسجد مرة أخرى هي خطوة عملية مباشرة من أجل استعادة المبتور من الشخصية التركية الحضارية المتكاملة.
عندما تتعرض الأمة لحالة من التشوية في شخصيتها نتيجة القطيعة مع التاريخ، لابدّ من أحداث كبيرة تستعيد هذا الانتماء؛ لأن الكتب والمحاضرات والاطلاع لا يكفي في مثل هذه الحالة، فالتشوه امتد إلى الثقافة الشعبية وأنتج هجينًا حضاريًا متلونًا بدون انتماء ولا قضية، يلهث وراء الغرب ليتدثر من عري فاضح نتيجة أنه تخلى عن هويته وعباءته التاريخية، واستورد لباسًا لا يليق به، جعله يبدو كالمهرجين وهو يحاول تقليد الآخرين ليكون إنسانًا عصريًا متحضرًا.
إن استيراد الثقافة تجعل الشعوب المستوردة شعوبًا تابعة، درجة ثانية، لا يمكن لها أن تتقدم على القدوة التي تلحق بها، وإن طبيعة الموردين تقتضي أن يجعلوا أنفسهم في العالم الأول والآخرين في العالم الثالث، مع ترك هوة حضارية شاسعة يسقط بها من يريد القفز بين عالمين.
إن الثقافة في العالم قائمة على هذه الأساسات، حيث يتم عولمة جميع الحضارات لتشبه حضارة واحدة قائدة ويكون الجميع تبعًا لها، بينما يتم إغفال التفاعل الحضاري عبر وسم الحضارات والثقافات الأخرى بالتخلف والجهل والإرهاب والبدائية.
إن إنتاج الشخصيات الحضارية المنافسة يكون عبر الإغراق في المحلية والانتماء وإبراز الهويات المتعددة المتفاعلة، وليس إلغاءها لمصلحة هوية واحدة، لذلك يبدو التاريخ أحد أهم مكونات تلك الشخصية، والثقافة والحضارة التاريخية تُشكل الهوية الأصيلة التي تمنح الشعور بالاعتزاز للأفراد، وتجعلهم أكثر قدرة على المنافسة، وتجعلهم يرفضون تلك التبعية وأشكالها، ويقدمون أنفسهم نموذجًا حضاريًا مختلفًا له رؤيته الخاصة وفلسفته المتفردة للعالم والحياة.
ولا يمكن أبدًا (وهذا ما أدركته تركيا) أن يتم صناعة نهضة الأمّة بعيدًا عن تاريخها، وبعيدًا عن حضارتها، لذلك كان لا بدّ من استعادة الرموز، وأهمها رموز القوة التي تذكِّر الشعب بقدرته على المواجهة، وتعطيه ما يحتاج من زخم عظيم ليقف في المقدمة واثقًا أن الآخرين لا يمكن أن يكونوا أفضل منه، ولهذا يتم العمل على إعادة بعث التراث والتاريخ والانتماء من جديد، في الإعلام والسينما والتلفزيون والأحداث المباشرة التي تلامس الناس كآيا صوفيا.
ما نحتاجه هو صناعة شخصية حضارية نامية، تستند إلى جذورها الواضحة والمغروسة في عمق الوجود الإنساني، وليس صناعة شخصية حضارية جديدة واهية الجذور مضطربة الانتماء، تتلفّت لتتمسك بالأقوياء كتابع ذليل لا أقدام تحملها، ولا قوة تستند إليها.
وهذا الإنجاز لا يتم إلا بجهدٍ تتبناه الأمة، ولا يصلحه كثرة النجاحات الفردية في مختلف المجالات، لأنها في النهاية ملك للحضارات التي تتشكل بها، وليست ملكًا لأصحابها، ولن تكون (ناسا) رغم العدد الكبير من علماء الشرق الذين يعملون بها إلا وكالة فضاء تحكي مجد أمريكا، لا مجدهم.
المدير العام | أحمد وديع العبسي