علي سندة |
من منا، نحن السوريين، لم يغير مكانه الذي يقيم به خلال السنوات الماضية نتيجة الظروف المحيطة؟! الإجابة بدهية لأن نصف الشعب السوري بين نازح مُهجَّر في الداخل السوري، وبين ومُهجَّر في بلاد اللجوء، والسؤال الذي يفرض نفسه: كيف أثَّر الفرد وتأثر بالمكان؟
المكان الجديد الذي يحطُّ به الفرد مرتبط بالتكيف ودرجته لدى كل شخص، والتكيف مرتبط بالصبر والأخلاق، فلولا الصبر ودرجته التي تختلف أيضًا من شخص لآخر لما حدث التكيف في المكان الجديد وتم الحفاظ على المبادئ والثوابت.
سأورد فرضية تمثل جانبًا من جوانب التأثر والتأثير بالمكان، وهو جانب (النظافة) لنفتح به الباب على مصراعيه لباقي الجوانب السلوكية وكل ما يتصل بالفرد من أقول أو أفعال.
هب أن شخصًا اضطرته الظروف للنزوح أو الانتقال إلى مكان آخر، ولم تسمح له ظروفه المادية أو المكانية أن يسكن ببيت يعادل مستوى بيته السابق بالاتساع والإشراف والجودة ونظافة الجدران ونوع الأرضية وجمالها…إلخ، وكان حريصًا أشد الحرص في بيته السابق على النظافة اليومية لاعتقاده أن بيته الأساسي يستحق منه بذل الجهد للحفاظ عليه نظيفًا، لكن سلوكه في المكان الجديد حيث نزوحه تغير تجاه النظافة لتغير المكان ومواصفاته، فأصبح لا يعطه اهتمامًا كبيرًا وربما لا يعطه أبدًا، مُبررًا ذلك أنه (يجلس بشكل مؤقت، وأن المكان لا يستاهل ذلك القدر من النظافة لأنه غير جيد وغير مناسب، وأن نفسيته لا تساعده أصلًا على ذلك البذل لأن سوء المكان أثر بها، وأن الناس حوله يتبعون السلوك نفسه ويشعرون بما هو يشعر به) وغيره من المبررات التي لا تنتهي.
هل نقول عن الفرضية السابقة إنها صحيحة؟ في الحقيقة ربما الأمر السابق ليس فرضية إنما حالة متحققة تُمارس من قبل من اضطرتهم الظروف إلى فعل ذلك وتغيير الكثير من سلوكياتهم نحو السلبية، لكن في المقابل ثمة من لم يتأثر سلبًا إنما أثر إيجابًا واستطاع التكيف وهذا ما سنثبته في الحالة المعاكسة، لكن قبل ذلك نقول: إن التغير الذي حدث في السلوك السابق نحو السلبية نتيجة تغيير المكان واختلافه بالميزات ربما يؤدي إلى حدوث صدام فكري مفصلي في العائلة التي يحدث فيها ذلك، فالزوجة هي المسؤولة أولاً وآخرًا عن النظافة، والزوج اعتاد رؤية النظافة في البيت لأنها سلوك لدى الزوجة المُتقِنة التي تعلمت ذلك من قبل، ولم يعتد منها رؤية خلاف ذلك مهما تغير المكان واختلفت الظروف، وأي مبرر هنا لدى الزوجة في إهمالها النظافة أو تغير المستوى فيها غير مقبول قطعًا، وربما إصرارها على تبرير السلبية وتراجع أدائها عند ملاحظة الزوج ذلك يفضي إلى هدم العائلة كلها؛ لأن تغيير المبادئ وفقًا لتغير المكان يعني التلون وعدم أصالة السلوك الناتج عن التربية التي يُفترض أنها متسلحة بالأخلاق والقيم أينما حل الفرد، وهذا ما يقودنا إلى التفصيل في الحالة المعاكسة، إذ إن السلوك الإيجابي الذي اعتاد عليه الشخص مهما تغير المكان يبقى نفسه بل يتطور نحو الأفضل ولا يتغير ليصبح سلبيًا، والأمثلة على ذلك كثيرة، كم من العوائل التي اضطرها التهجير الممنهج إلى ترك بيوتها ومزارعها للسكن بخيمة وحولوا تلك الخيمة إلى قصر منيف بعيونهم بفضل سلوكهم وقدرتهم على التكيف وصبرهم! وكذا الأخلاق وكل ما يتصل بالإنسان، فاللاجئ في أوربا مثلًا يؤثر ويتأثر بالبيئة المحيطة إما إيجابًا أو سلبًا.
المكان هو بيئة الفرد التي يعيش فيها، فلو تغيرت أرض المعركة على المقاتلين عدة مرات، وفي ظروف بيئية مختلفة، فإن ذلك لن يثنِ المقاتلين عن الاستمرار بالقتال والحفاظ على القيم والثوابت والمبادئ التي يؤمنون بها، بل سيتم التفكير بكيفية إحراز نصر وتقدم من خلال التخطيط والتكيف مع الواقع وتوريث ذلك للأجيال القادمة.