عبد الله عتر – باحث |
خلاصة تنفيذية:
تقدم هذه الورقة مقاربة مختلفة لتمكين المرأة العربية، تقوم على مفهوم “المجالات المفتوحة” و”العمل الموسع”، حيث تفترض أن مجالات الحياة كلها مفتوحة أمام المرأة والرجل على السواء، وأن كلاهما مطالب بواجبات فردية بالحد الأدنى في كل مجال أساسي سياسياً كان أو اجتماعياً أو اقتصادياً أو تربوياً أو تعليمياً أو ثقافياً، وأن كل عمل يسهم في تنمية حياتنا هو عمل نافع منتج سواء كان شكل الإنتاج مادياً او إنسانياً، وبناء عليه يجب أن تنفتح مشاريع تمكين المرأة على كل المواقع التي تتواجد فيها المرأة العربية في المنزل وسوق العمل ومؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني.
من أجل المستقبل.. أسئلة جديدة
تغيير مستقبل المرأة العربية مرهون بتغيير المقاربة والنموذج المعرفي الذي نرى به المرأة، وتغيير تلك المقاربة يتطلب البدء من نقطة مختلفة أكثر جرأة وانغماساً بالمستقبل، أما المحاولات التي لا تستند إلى أرضية فكرية صلبة فإنها سرعان ما تُهزم من قبل النموذج المعرفي السائد عند أول اصطدام.
وبما أننا متجهون للمستقبل فمن المهم طرح أسئلة ومفاهيم جديدة تأخذنا إليه، إذ تجديد الأسئلة يأتي قبل تجديد الطرح وقبل تجديد العمل والمشاريع، وقد اعتادت أدبياتنا العربية أن تطرح سؤال: كيف نمكّن المرأة؟ وما هي البرامج والتشريعات التي تمكّن المرأة؟ وهذا سؤال يقع ضمن دائرة “العقل الأداتي الإجرائي”.
لكن في الحياة الحقيقية يقبع سؤال صامت: تمكين المرأة في أي شيء؟ ومن أجل ماذا؟. وهذا سؤال ينتمي إلى طبقة لحن الخطاب –كما تُسمى في الثقافة العربية الإسلامية- لأننا إذا قلنا بتمكين المرأة فإن أول خطوة للتطبيق تفرض علينا أن نوضح المجالات والأعمال والمهام التي ينبغي جعل المرأة قادرة على إنجازها وخوضها.
هذا السكوت والإضمار يخفي وراءه سؤالاً مؤسساً يقع في العمق الثقافي: ما هي المهمة التي وُجدت لأجلها المرأة؟ وهل تختلف عن مهمة الرجل؟.
استناداً إلى هذا السؤال تتناسل الأسئلة جميعاً وكذلك الأجوبة، من سؤال طبيعة المرأة إلى سؤال دور المرأة في تربية الأولاد، إلى سؤال عمل المرأة في الشأن العام، والأكثر خطورة هو سؤال مكانة المرأة والأدوار([i]).
المهمة الكونية وانفتاح المجالات
في أعماق الثقافة السائدة في المنطقة يمكن أن نلتقط جواباً مختلفاً عما اعتدناه، إنه “عمران الحياة” بكل ما لهذا المعنى من امتداد في بناء المقومات وإيجاد الأساسيات وفي إنماء ذلك وتحسينه وتطويره، هنا تكون المساواة مطلقة ويمكن أن يتفق عليها المحافظ والليبرالي، لأنها “مساواة كونية” تتعلق بالمرأة والرجل بوصفهما بشراً.
مفهوم المساواة المطلقة في هذا المستوى يدفع لاشتقاق جواب ثان على قدر عال من الأهمية، وهو أن النساء والرجال على السواء معنيون بالعمل من أجل “عمران الحياة في كل مجالاتها الممكنة“.
ينتج عن هذا أنه ليس هناك تمييز مجالي بين المرأة والرجل، فلا يوجد مجالات خاصة بالنساء ومجالات خاصة بالرجال، بل كل مجالات الحياة الكبرى (المجال السياسي والمجال الاقتصادي والمجال الاجتماعي والثقافي..) مفتوحة أمام الرجال والنساء على السواء([ii]).
ما هو المسوغ لانفتاح المجالات على التساوي؟ إنه المنطق الأول نفسه، منطق عمران الحياة الموصول بالحيز الإنساني المتساوي بين المرأة والرجل، ولو حصل ههنا تمييز بغلق مجال كامل أمام المرأة أو الرجل لانغلق بذلك جانب من جوانب إنسانيتنا المشتركة دون مبرر، ألم نقل إننا وجدنا رجالاً ونساءً من أجل عمران الحياة، والحياة لا تَعمُر إلا باستيعاب مجالاتها ونشاطاتها الرئيسية.
وبما أن العمق الثقافي عامل حاسم في قضايا المرأة –كما تؤشر على ذلك التجربة الإسلامية والتجربة الغربية في موجاتها الأولى في القرن السابع عشر- فإنه يحسن تأييد هذه الوجهة بمقولات مؤسسة في ثقافة الحوض العربي والإسلامي، حيث استقرت قواعد في الفقه الإسلامي تؤكد صراحة تلك المساواة في عمران الحياة وإصلاحها، مثل قاعدة: “ما شرعه الله للرجال فالنساء مثلهم”، وقاعدة: ” الأصل في الشرائع هو العموم في حق الناس كافة”.
عند هذا الحد يمكن رسم الملمح الأول من ملامح تمكين المرأة في المنظور الإنساني المفتوح، والذي يتعلق بالمجال والنطاق ونوعية المشاريع، إنه “تمكين المرأة في مجالات الحياة المتنوعة“. وهذا ناتج عن ربط “تمكين المرأة” بمفهوم “مجالات العمران المفتوحة”. تمكين المرأة ليس تدريب سياسي وتحفيظ قرآن وتعليم خياطة وتزيين شعر فحسب، بل فاعلية ممتدة إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير.
العمل الموسع ونطاق الممكن
لكن ومن ناحية عملية يبدو أننا نواجه استحالة في تمكين المرأة تمكيناً عابراً للمجالات، بل إن هذه الاستحالة تبدو أيضاً في تمكين الرجل أيضاً، أين نجد ذلك الإنسان الفائق الذي بمقدوره الإسهام في كل مجالات الحياة؟!
حتى نجيب على السؤال ينبغي أن نتذكر أن الإنسان –رجلاً أو امرأة- يساهم في عمران الحياة وتنمية المجتمع من خلال “أعمال” يؤديها، أي أن “العمل” هو الأداة والوعاء العملي الذي تتجسد فيه مهمة العمران والتنمية. هنا لا بد أن نعيد تعريف “العمل” ومستوياته وأنواعه حتى نستطيع التقدم للأمام.
يمكن اعتماد تعريف “إجرائي” للعمل بأنه كل نشاط وفاعلية يمارسها الإنسان، و”العمل النافع المنتج” هو عمل هدفه تحقيق “مصلحة وخير” تنفع في حفظ الحياة وتحسينها في كل الميادين، أينما وجد هذا العمل وفي أي سياق كان، وسواء فعله رجل أو امرأة وسواء كان داخل الأسرة أو خارجها.
العمل إذن مرتبط بمجالات العمران، وتتحدد قيمته وإنتاجيته بحسب نفعه والخير الذي يجلبه معه، فأي نشاط يسهم إيجاباً في مجال الاقتصاد هو “عمل نافع منتج”، وكذلك أي نشاط يسهم في مجال التربية وتنشئة الجيل البشري الجديد هو “عمل نافع منتج”، وهلم جراً..
يمكن رصد تسلسل الأفكار كالتالي (من اليمين إلى اليسار):
المهمة الكونية – عمران الحياة – مجالات العمران – العمل المفتوح
لكن ما هو العمل الذي يجب\ينبغي على الفرد أن يؤديه حتى يسهم في مجالات العمران؟ وهل العمل في مجالات العمران يخضع لتقسيم المجال الخاص الفردي الشخصي والمجال العام؟
في الثقافة العربية الإسلامية يأخذ الجواب شكلاً متعدد الأبعاد([iii]):
- الالتزام الفردي: وهي أعمال يجب على الفرد أداؤها بغض النظر عن أداء الآخرين.
- الالتزام الكفائي: وهي أعمال يجب على الجماعة أداؤها تتعلق بالشأن العام، ويكون أداؤها من خلال مجموعة أفراد ينهضون بها على وجه كاف، والشأن العام شأن كفائي لأن كل مجموعة من الناس تكفي الآخرين عبء القيام به، فالأطباء –مثلاً- يكفون عموم الناس قضية التطبيب والصحة.
ربط العمل الواجب بمجالات العمران ينتج منظوراً نسوياً جديداً، خلاصته أن على المرأة والرجل واجبات فردية “عينية” في كل مجالات الحياة الأساسية، وواجبات كفائية في مجال أو أكثر يختاره الشخص نفسه.
“خالد” رجل عليه التزام فردي في المجال الاقتصادي (دفع ضرائب\نفقة على أسرة،..) وفي المجال التربوي (تنشئة الأطفال، ..)، وفي المجال التعليمي (أن يتعلم التعليم الأساسي،.. )، لكنه اختار أن يكون عمله الكفائي في مجال التعليم فدرس وتخصص وصار معلماً.
في المقابل “هدى” زوجة خالد لديها التزام في المجال التربوي (تنشئة أطفال،..) وفي المجال الاجتماعي (تواصل مع الأرحام والجيران والأصدقاء)، لكنها اختارت أن يكون عملها الكفائي في المجال التربوي فتدربت وتفرغت لتربية أطفالها، ثم بعد فترة غيرت عملها الكفائي من المجال التربوي إلى المجال الاقتصادي وصارت تشتغل بالتجارة.
في كل مجالات العمران هناك واجبات عينية على المرأة والرجل تفتح لهما طريق المجال وتحث على إكمال السير فيه، وفي كل مجالات العمران هناك واجبات كفائية على المرأة والرجل أيضاً، ويمكن صياغة ذلك كالتالي: “تقدم واجب في كل المجالات، وتقدم اختياري خاص في مجال أو أكثر”.([iv])
المنطق الحاكم هنا هو الارتقاء بجميع جوانب الحياة ككتلة واحدة والصعود بها في نفس الوقت إلى مستوى معين لا يجوز النزول عنه، بحيث تمارس المرأة والرجل مهمة العمران في مختلف المجالات التي يعيشها الإنسان، فالواجب يمتد إلى مستوى معين في كل جانب من جوانب العمران ليسنح بممارسة العمل في مختلف زوايا الحياة الإنسانية، ثم يترك للفرد بعد ذلك أن يختار مجال الكمال الذي يرغب فيه.
تتأسس هذه الرؤية على أن جميع مجالات العمران مهمة جداً، وليس هنالك مجال أقل شأناً وأهمية من مجال، لأن نموها جميعاً هو الضامن لاستمرار المجتمع ورفاهه.
هذه الطريقة في النظر تخالف التكفير النمطي الذي يقسم العمل بين الرجل والمرأة وفق معيار المكان “داخل المنزل\خارج المنزل”، سواء لانتقاص قيمة العمل داخل المنزل والمتمثل عادة بتنشئة الأطفال أو لانتقاص العمل خارج المنزل والمتمثل عادة بأعمال ذات عائد اقتصادي مباشر.
والحقيقة أن في هذا قصور كبير سواء ممن يريدون إبقاء المرأة داخل المنزل وغلق أبواب الحياة الأخرى في وجهها، أو ممن يريدون إخراج المرأة من المنزل وغلق باب الحياة الأسرية أمامها، كلاهما مستبد يحاول تضييق الخيارات على المرأة العربية والكردية والأمازيغية وعموم نساء المنطقة.
توجهات في العمل النسوي
تمكين المرأة وفق المنظور الإنساني المفتوح يعني تنفيذياً برامج عمل ونظم اجتماعية وسياسية تحقق هدفين:
- تمكين كل امرأة من أداء التزاماتها الفردية في كل مجال من مجال الحياة بالحد الكافي المقبول، والانفتاح على برامج جديدة غير تقليدية في تمكين المرأة، وهذا يعني برامج تأهيل سياسي لأداء دورها السياسي، وبرامج تأهيل تربوي لأداء دورها في تربية الأطفال، وهكذا..
- تمكين كل امرأة من خيار العمل والأسرة معاً في نفس الوقت، وعدم وضعها في موقف أحد الخيارين: إما أن تختار العمل أو تختار الأسرة، هذا التحدي –كما تقول بيتي فريدان- صنعته الحركات النسوية في ستينات القرن العشرين، وقد أدى إلى نتائج خطيرة في تقليص حرية المرأة في الاختيار، وهذا ينعكس تنفيذياً في تصميم أنظمة عمل مختلفة تضمن قوة الأسرة ([v]).
أؤكد في النهاية على أن تنشئة الأطفال هي عمل منتج، لأنها تحفظ أحد أهم مجالات العمران من التصدع وهو مجال تنشئة الجيل البشري القادم، وينبغي علينا الكف عن تثبيط حرية المرأة في اختيار المجال الذي تريد أن تمضي فيه أغلب يومها، التوقف عن انتقاص عمل المرأة خارج المنزل بالمهن والوظائف العامة، والتوقف في المقابل عن انتقاص عمل المرأة داخل المنزل في تربية الأولاد ورعاية الأسرة، فضلاً عن الأعمال السياسية والاقتصادية والثقافية التي تنجزها المرأة باستخدام مؤسسة الأسرة والتي انهمك علم الاجتماع المعاصر في بيانها وتفصيلها وتطوير أدواتها([vi]).
مهمة حركات تحرير المرأة ليست فرض توجه أو طريقة محددة في الحياة بل فتح ساحة حرية وكرامة للمرأة تساعدها على اختيار طريقة الحياة التي ترغب العيش بها، الحرية من أجل أن تختار والكرامة من أجل ألا يحتقر أحد خيارها.
[i])) انظر: النسوية وما بعد النسوية، سارة جامبل، ترجمة: أحمد الشامي، المجلس الأعلى للثقافة، ط1\2002، ص: 24، الأسس الفلسفية للفكر النسوي الغربي، خديجة العزيزي، مكتبة بيسان، د.ط، ص: 41-42
[ii])) انظر: المرأة والعمل السياسي رؤية إسلامية، هبة رؤوف عزت، المعهد العاملي للفكر الإسلامي، د.ط\1995، ص: 87 وما بعدها.
[iii])) انظر: معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية، مجمع الفقه الإسلامي الدولي ومؤسسة زايد للقواعد الفقهية والأصولية، 27\388
[iv])) انظر: دستور الأخلاق في القرآن، محمد عبد الله دراز، ترجمة: عبد الصبور شاهين، مؤسسة الرسالة، ط11\2005، ص: 92-93
[v])) انظر: Beyond Gender: the new Politics of Work and FamilyK,Betty Freidan, Woodrow Wilson Center Press, 10\oct\1997, P:8-9
وقارن ذلك ب: النساء في الفكر السياسي الغربي، سوزان موللر أوكين، نرجمة: إمام عبد الفتاح إمام، التنوير، ط1\2009، ص: 354
[vi])) انظر: علم الاجتماع ودراسات المرأة تحليل استطلاعي، محمود عبد الرشيد بدران، مركز البحوث والدراسات الاجتماعية، د.ط، د.ت، ص: 53 وما بعدها.