أ. عبد الله عتر |
افتتحت سورة الشورى بوضع الوحي ومضامينه في منظور عالمي ممتد يتجاوز خصوصيات المسلمين: “حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)“ كلمة السر هنا هي (كذلك)، الكاف للتشبيه، ذلك: اسم إشارة يشير إلى الوحي والآيات الواردة في السورة، ويشبهها بالوحي الذي أُوِحي إلى الأنبياء من قبل. فكّك المفسرون -كالرازي والنسفي وابن عطية- كلمة السر بأن السورة تُخبر عن نفسها أنها ستأتي بمضمون ديني مشترك بين الديانات المُنزلة، هناك ميراث ديني عالمي ستخبر السورة به. حسناً.. فلتقل ذلك بشكل مباشر، لماذا اختارت أن تقول ذلك من خلال الإشارة إلى وجود أنبياء بعثوا إلى مجتمعات حقيقية؟
إيمان بالوحي النازل إلى الآخرين
تريد السورة أن تدخل إلى عقول قرائها وتحلق بهم إلى أفق مفتوح.. في فضاء عالمي فسيح يتنقل بين تجمعات سكانية مختلفة في أصقاع الأرض التي حل فيها الأنبياء.. إنها تدفع الرسول ومعه أمته أن يفتحوا نظرهم وإيمانهم لا إلى ما نزل إليهم فحسب، بل إلى الوحي النازل إلى غيرهم، (إليك وإلى الذين من قبلك). كأنها تقول: شاهد الوحي النازل إليك وإلى غيرك.. سنخبرك بالمقدار المشترك من الدين.
بهذا الخفاء تتسلل المعاني إلى وجداننا وتفكيرنا دون أن نحس بها، فالمسلمون في العالم يفكرون ويؤمنون بما نزل إليهم وما نزل إلى الرسل، تتنامى هذه الموجة في سورة الشورى حتى تبلغ مداها: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى )، هكذا يضع القرآن أتباعه في وضعية تدفعهم للانفتاح على ما عند الآخرين وتوسيع منظور الرؤية، وتمنعهم من الانغلاق على الذات، تفعل ذلك في أكثر المفاصل عمقًا وحساسية.
اقرأ أيضاً: تشكل الحياة الإنسانية بين الخلق والاصطفاء الطبيعي | د. لؤي صافي
انفتاح الرؤية في جذور الإيمان الديني في الإسلام سينعكس على طبيعة الحياة العملية وإدارة شؤون الدنيا والعلاقات، فإذا أمَرنا القرآن أن نفتح عيوننا على الوحي النازل إلى الشعوب والأمم الأخرى، فمن باب أولى أن ننظر نحن في ترتيبات حياتنا ونفكر بهذه الطريقة ولا ننغلق على ما لدينا فقط.
معرفة رأي الآخرين.. عقدة الشورى
معرفة ما لدى الآخرين من (رأي) امتداد طبيعي لخط تفكير مستمر، بدايته معرفة ما لدى الآخرين من (وحي) وحين تبدأ سورة الشورى بتصوير الوحي من هذه الزاوية فإنها تضع العنصر الأول في شبكة الشورى، وتذهب به لأقصى عمق في ضمير المؤمن وهو الإيمان بالوحي (آمن بالوحي النازل إليك وإلى غيرك).
ضمن هذا الخط نفسه نجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- يوسع عمليات الشورى إلى أوسع مدى، حتى لاحظها أحد الصحابة فقال: “ما رأيت أحداً قط أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله” (الترمذي).
التقط المفسرون -كابن العربي- هذا العنصر الجوهري في عملية الشورى وانطلقوا به إلى جانب عملي إجرائي، فتحدثوا لا عن معرفة رأي الآخر بل عن “استخراج” ما عند الآخر من رأي، فقد يتعذر معرفة رأي الآخرين بشكل تلقائي، لذلك نحن بحاجة دائمة إلى آليات قادرة على “استخراج” الآراء. وقد تطورت آليات الشورى في العالم الإسلامي في مجالات العلم والقضاء والأسرة والمجتمع الأهلي والمجال السياسي، وإن كانت لم تبلغ مداها السياسي مقارنة بما بلغته في المجالات الأخرى.
منعكسات عملية
سعة التفكير هذه تركت أثرها على طبيعة العيش المشترك الذي أنجزه المسلمون مع غيرهم، حتى أن مفكرًا مسيحيًا -أمين معلوف- يعيش في عصرنا، شعر بنبض تلك الحقيقة القادمة من تاريخ المنطقة، فذكر في كتابه (الهويات القاتلة) أنه “لو كان أجدادي مسلمين في بلد فتحته الجيوش المسيحيّة، بدلاً من كونهم مسيحيّين في بلد فتحته الجيوش المسلمة، لا أظنّ أنّهم كانوا استطاعوا الاستمرار في العيش مدّة أربعة عشر قرنًا في مدنهم وقراهم محتفظين بعقيدتهم… يوجد في تاريخ الإسلام منذ بداياته قدرة مميّزة على التعايش مع الآخر”.
اقرأ أيضاً: مات أبي ولموت النازحين طقوس أخرى