أ. عبد الله عتر
انظروا بعيون الآخرين، وخذوا رأيهم ومعارفهم على محمل الجد، استنطقوا الطبيعة والبيئة، الأشجار والهواء والحيوانات، مستويان من التفكير الواسع تحدثت عنهما الآيات الخمسة الأولى من سورة الشورى، تناولتها المقالة السابقة، لكن السورة تأبى أن تتوقف هنا، حتى تمضي بنا إلى مستوى ثالث من التفكير الشوري المُنصف، مستوى يتعلق بنوعية الحياة التي يجب إنجازها في هذا العالم، ولجميع أهل الأرض: ((وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)).
النظر بعيون محايدة منصفة
إستراتيجية التفكير التي حددتها الآية أن نفكر بإنصاف، فنرى كيف ستبدو الأمور من وجهة نظر مشاهد منصف ومحايد غير متورط في عالمنا بمصالحه وثقافاته. إنها وجهة نظر الملائكة.. مخلوقات واعية منصفة تحرص على حصول الخير للمخلوقات، تخبرنا الآية أن هؤلاء الملائكة يفعلون أمرين:
- (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)، وهذه رؤية إيمانية توحيدية متعلقة بالله مباشرة، فالقرآن يخبر أن الملائكة يعيشون وفق الإيمان بإله واحد متصف بأعظم الصفات ومنزه عن أي عيب أو نقص.
- (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ)، هذه رؤية دنيوية واقعية متعلق بحياة الناس مباشرة، حيث لخصت الملائكة مطالبها لأهل الأرض -مؤمنهم وكافرهم- بأنها حصول الغفران لهم.
لنسجل ملاحظة سريعة هنا.. القرآن يصوِّر الملائكة بأنها كائنات مهتمة بسكان الأرض ومطالبهم ومصالحهم، وينفي عنها الصورة التقليدية بأنها كائنات منعزلة بنفسها في عالم طهوري محض مهتم بالعبادة.
الغفران بوصفه مطالب العيش الكبرى
حسناً.. ماذا يعنينا هذا الاهتمام إن لم ينعكس على حياتنا العملية التي نعيشها اليوم، إنها تطلب المغفرة لنا، فهل سيحل هذا الطلب مشاكل الناس ويوقف الاقتتال والمجاعات ويعزز الاقتصاد؟!
تولى المفسرون الإجابة على هذا السؤال.. نعم إن الغفران سيحقق ذلك وأكثر، فالمعاني التي ذكرها المفسرون (كالزمخشري، والماوردي، والسمرقندي، والقرطبي، والرازي، والنسفي، والبقاعي، وابن عطية) أن استغفار الملائكة يعني ثلاثة مطالب جوهرية لأهل الأرض:
- الهداية الدينية ومغفرة الخطايا.
- البقاء بدون هلاك البشرية (بعقاب إلهي عاجل).
- سعة العيش والرزق والعافية.
إنه لأمر مدهش.. نستطيع أن نفهم دعاء الملائكة لنا بالهداية الدينية ومغفرة الخطايا، فهي مخلوقات روحانية تتنفس الإيمان، ما يصعب فهمه أنها تطلب من الله إبقاء البشر رغم كل خطاياهم ومظالمهم، وعدم تعجيل العقوبة والإفناء.
اقرأ أيضاً: توسيع منظور الرؤية (1)
أما الأمر الأكثر غرابة فهو المطلب الثالث لأهل الأرض، أن يتوفر لهم سعة العيش والحياة والرزق المادي والتمتع بالصحة والعافية، إن هذا المطلب المعاشي الموغل في الدنيوية صادر عن الملائكة الموغلة في الطهورية والخيرية.
يريد القرآن أن يعلمنا ويدربنا كيف نرى ونفكر بعيون كائنات خارجة عن عالمنا، وأن يصحح تصوراتنا عن الخير بأنه يشتمل فقط على أمور الروح والآخرة، إنه يشتمل أيضًا شؤون العيش والدنيا.
ولعل مطلب “البقاء أحياء” يخاطب عصرنا، ويخاطب أبناء جيلنا الذين يعيشون، وفي الحارة أو الدولة المجاورة أناس يموتون من شدة البرد أو الجوع أو العطش أو المرض، يجب على أهل الأرض أن يعيدوا النظر في النظم الاقتصادية والاجتماعية كي يحققوا مطلب “البقاء دون هلاك”. إن الشورى هنا تلبس رداء عالميًا يرى “من في الأرض” وليس “من في الوطن” فقط.
فمن يقدم طرحًا لنموذج الحياة الطيبة يركز فقط على الروح والقيم ولا يلبي معاش الناس ويحسن جودة حياتهم، فهو طرح لا إنساني ولا حتى ملائكي، فضلاً عن أن يكون دينيًا، ومن يقدم طرحًا يركز فقط على أمور المعاش ولا يلبي حاجات الروح والقيم والإيمان، فهو طرح لا ملائكي ولا حتى إنساني. هذه أحد الرسائل التي نفهمها من السورة.
هكذا الشورى.. إطلالة على القضية من نوافذ مختلفة وسير على طريق الإنصاف، من خلال الاستعانة بمنظور خارجي ومُشاهد محايد غير مرتبط مباشرة بالأطراف المتحاورة، يريد الخير للجميع.