أ. عبد الله عتر |
تستمر سورة الشورى في توسيع نظرتنا للأشياء وطريقة تفكيرنا بالعالم، إنها تطالبنا أن نوسع رؤيتنا لتشمل كائنات خارج عالمنا، وتدفعنا أن نغادر مواقعنا ونكسر القيود وننفتح على أوسع مدى ممكن، فذكرت (السموات) بوصفها الوعاء الكوني، وذكرت (الملائكة) بوصفها مخلوقات واعية: ((تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ …)).
تؤكد الآية أن نوسع نظرنا لا لنرى الأمور بعيون الآخرين ومن وجهة نظرهم فحسب، بل تطلب أن نتحرك من موضعنا لنرى الأمور من موضع مختلف وبعيون غير بشرية، كيف يمكن التفكير بعالمنا وتقييم ترتيباته من هناك، وتحدد الآية إستراتيجيات للتفكير ومناظير للرؤية.
زوايا الرؤية الثلاثة
الملاحظة المحورية هنا أن الآيات الخمسة الأولى من سورة الشورى خططت بعناية لتوسيع أفق الرؤية والتفكير عبر ثلاثة مستويات متتالية، إشارة إلى أنها عمليات وآليات حاسمة لممارسة الشورى بشكل جدي:
- منظور الآخرين: افتتحت السورة: (كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك)، وإذا كان المطلوب الديني معرفة ما لدى الآخرين من “وحي” كما ذكر المفسرون، فمن باب أولى معرفة ما لدى الآخرين من “رأي”، لذلك شرح المفسرون أن الشورى تحتاج إلى استخراج ما عند الآخرين من رأي وعدم الانغلاق على النفس.
- منظور الكون الصامت: وهو أداة لاستنطاق الطبيعة والكائنات الحية المحيطة بنا، ماذا كانت لتقول وتطالب لو أنها نطقت، ثم نراعي إجاباتها في ترتيب الحياة وإدارة شؤون العيش، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية..
- منظور منصف محايد: أن نفكر بإنصاف ونرى كيف ستبدو الأمور من وجهة نظر خارجة عن عالمنا.
منظور الكون الصامت.. من الشورى
تخبرنا الآية أنه لو كان للسموات أن تبدي رأيها وردة فعلها تجاه ما يجري على الأرض لتفطرت (تشققت وانهارت)، هذه هي إستراتيجية التفكير الأولى؛ أن نفكر بالكون الصامت خلال تنظيم حياتنا الاجتماعية والاقتصادية؛ ونأخذ بحسباننا الطبيعة والكائنات الحية المحيطة بنا؛ لو كان لها أن تنطق وتعبر ماذا كانت لتقول؟ لو كان لها أن تفصح عن حقوقها ماذا كانت ستطالب؟ لعل أول المطالب ألَّا ننجر وراء أنانيتنا وندمرها.
تحول هذا المنظور (استنطاق الطبيعة والكائنات الحية) إلى أداة استخدمها العالم الإسلامي في إدارة شؤون العيش، وتحولت إلى بنية قانونية ومؤسسية، فيذكر القرطبي عند كلامه عن حقوق الحيوان أن “الدّواب لا تقدر أن تفصح عن حوائجها، فمن ارتفق بمرافقها ثم ضيع حوائجها فقد ضيع الشكر وتعرض للخصومة عند الله”، وكانت مؤسسة الرقابة على السوق (الحسبة والشرطة) تفرض قوانين على كمية الأثقال التي يجوز تحميلها على الحيوانات المستخدمة لنقل البضائع والأشخاص.
وابتدأ تنظيم هذا الأمر من خلافة عمر بن الخطاب، فكان مرة يتفقد السوق فوجد حمارًا قد حُمل عليه أثقالاً فخفف عنه من أحماله، فجاءت صاحبة الحمار وخاصمت عمر: مالك ولحماري! إنك عليه سلطان!، فأجاب عمر: فما يقعدني في هذا الموضع! (يقصد أن هذا من مسؤوليات السلطة).
ساهمت السنة النبوية بتكريس منظور الكون الصامت وتحويله لطريقة تفكير شائعة في الحياة الاجتماعية، حتى فيما يتعلق بقوانين الصيد، مثلاً نجد حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل عصفورًا فما فوقها بغير حقها، سأله الله عن قتله) (النسائي). لا يخفى على أحد كم يحتاج عالمنا المعاصر إلى هذا المنطق، حيث يتم تدمير البيئة دون اكتراث أو مسؤولية، من أجل الجشع والاستهلاك المميت.
ماذا كانت لتقول؟!
لو أن الغلاف الجوي الذي يعاني الاحتباس الحراري نطق، ماذا كان ليقول يا ترى؟! لو أن الهواء النقي .. لو أن عيوننا نطقت .. لو أن صحتنا.. علاقاتنا الاجتماعية .. الأراضي التي يتم الاقتتال عليها نطقت، ماذا كانت لتقول..؟!
مع كل شيء ينطق سيكون هناك حقوق بيئية وصحية تحتاج إلى خطط عمل، مرة نجد الكون يصرخ بنا، ومرة نجد أجسادنا تصرخ بنا، ومن أدب الشورى أن نرهف سمعنا ونحسن الإنصات.