جاد الحق (معتز ناصر) |
انفجرت أول أمس سيارة مفخخة ركنت أمام كراج مدينة الباب، وسط منطقة مدنية مزدحمة، وخلف انفجارها عشرات الشهداء والجرحى، ودمارا كبيرا سبب رد فعل غاضب عند الناس.
الباب التي تعاني بصمت من معركة تحريرها لليوم، لم يعد بوسع أهلها المزيد من الصبر، فالتحرير الذي كلف المدينة أرواحا كثيرة من المدنيين نتيجة المعارك، ودمارا لم يبق فيها ولم يذر، لم تكن نهايته إلا وعود سرابية أطلقت من هنا وهناك بتحسن وضع المدينة.
عامان ونصف والمدينة بدون كهرباء أو ماء، وفرص العمل بها قليلة جدا، خاصة بظل سياسة طرد المنظمات، والتضييق على الأعمال الخاصة والتي تتبعها المؤسسات المحلية، ولاتزال سرقة الدراجات النارية، وحوادث إطلاق الرصاص المتكررة، والانفجارات سمات دالة على الانفلات الأمني الذي يعصف بها. ذاك الانفلات الذي لا يرجعه أهل المدينة لضعف بمؤسسة الشرطة، بقدر ما يرجعونه لعدم قدرة الجيش الوطني بعد على ضبط عناصره، كون أن مسببي أغلب المشاكل خلفهم مجموعات وفصائل مفسدة ترعاهم.
ولا يزال الاحتقان يزداد ويكبر حتى حدوث التفجير الأخير لتبدأ معه أحداث متشابكة.
ليلا بعد ساعات من الانفجار تم تداول خبر إلقاء القبض على منفذ التفجير، تلاه انتشار دعوات للأهالي عبر وسائل التواصل للتظاهر والإضراب مطالبين بالإعدام الفوري للمنفذ.
تحركت مجموعات غاضبة ومنفعلة من الجريمة لتتظاهر إما على الأقدام أو على الدراجات النارية، وكانت سمة العفوية وعدم التنسيق واضحة عليها، ودعا ناشطون في المدينة لمظاهرة منسقة عصر اليوم التالي ( الأحد ) تطالب بالقصاص العادل بحق منفذي التفجير.
في صباح الأحد ازدادت حركة التظاهرات كثافة، خاصة على الدراجات النارية، بسبب تسريبات من التحقيق مع المتهم أفادت أنه عنصر أمني لإحدى الفصائل، ومجند من طرف قسد، وأدخل السيارة المفخخة بالتنسيق مع عدة أشخاص منهم أناس أصحاب سطوة ونفوذ ضمن تلك الفصائل، وكان دخول السيارة المفخخة من نقاط رباط هذه الفصائل شرق مدينة الباب، وهي أماكن معروفة عند أهالي المنطقة أنها معابر تهريب غير رسمية مع النظام وقسد، تديرها مجموعات مسيئة بحجة الرباط فيها.
هذه التسريبات أدت لتجاوب أكبر للأهالي مع الإضراب، وأججت المظاهرات الخارجة، والتي تجمعت لاحقا أمام مقر قيادة الشرطة، حيث شهد دخول الأهالي لساحته والتظاهر فيها رافعين نفس المطلب، والتقى بهم عدد من ضباط الشرطة وقاموا بتهدئتهم والطلب منهم مغادرة المكان لحساسيته ولتجنب حدوث أي احتكاك.
بعد خروج المتظاهرين وإعادة تجمعهم أمام المقر، وانتشار تسريبات التحقيق مع المتهم أكثر، تم رصد عدد من الملثمين والمسلحين الذين اندسوا بين المتظاهرين، وقاموا بداية برشق الشرطة بالحجارة، وشتم عناصرها، ثم تطور الأمر لاحقا لرمي زجاجات حارقة أحرقت مدرعة للشرطة، تلا ذلك إطلاق رصاص على مقرها، مما اضطر الشرطة لاستخدام الرصاص بالهواء، والغازات المسيلة للدموع لتفريق المظاهرة التي تحولت فجأة لتجمع للمراهقين العابثين، والمسلحين الملثمين.
بعد صلاة العصر انطلقت المظاهرة المنسقة التي دعا لها الناشطون في مدينة الباب، وكانت بمركز المدينة عند دوار السنتر، شارك فيها عدد من نخبة ووجهاء ومثقفي وناشطي المدينة، سواء من أهلها أو الوافدين إليها، وأطلق فيها هتافات إسقاط النظام والتضامن مع المدن السورية، ورفعت شعارات ولافتات محاربة الفساد والمفسدين، وإنزال القصاص بالقتلة، وملاحقة عصابات التهريب والإفساد التي أرهقت المدنيين.
تقدمت المظاهرة نحو مركز الشرطة علها تنجح بتفريق المتجمهرين هناك من الملثمين والعابثين، وحاولت سيارة سوزوكي تحمل إطارات مطاطية مخصصة للحرق الدخول بين المتظاهرين السلميين لكنهم طردوها بعد إفراغ حمولتها، وقبيل وصول المظاهرة لمقر الشرطة ازدادت كثافة إطلاق الرصاص، وانتشرت أنباء سقوط ضحايا بسبب الرصاص العشوائي.
انفضت مظاهرة الناشطين والنخب، وعند المغرب تم دعوة عدد من وجهاء المدينة، ورموز التجمعات والحراك فيها، لاجتماع مع شانول نائب والي غازي عينتاب ومعه بعض القادة العسكريين، وبعض موظفي الإدارات المدنية.
شهد الاجتماع شدا وجذبا، شدد فيه أهل المدينة على ضرورة إعدام المجرم بعد انتهاء التحقيق معه لكشف كامل الشبكة المتورطة، وأعلنوا تبرأهم من مثيري الشغب والعنف، ووصفوهم بأنهم مدفوعون من بعض المفسدين والمسيئين الذين غايتهم التشويش على جريمة التفجير لتورطهم بها، ولأن لهم أجندات أخرى تهدف ضرب استقرار المنطقة وتدمير مؤسساتها، وإحراج تركيا عبر تصوير المنطقة التي توجد بها أنها منطقة فاشلة ومتفلتة.
بنفس وقت الاجتماع تحرك الملثمون المسلحون بالمدينة وافتعلوا بها أعمال تدميرية وتخريبية استهدفت المنشآت العامة والخاصة، مستغلين ضعف التواجد الأمني، مما جعل فصائل الجيش الوطني تنتشر بالمدينة وتضبط حواجزها.
بعد الاجتماع وانتشار الجيش الوطني لوحظ اختفاء أغلب الملثمين، وكان الهدوء سيد الموقف، وعند صباح اليوم بدأت الحياة الطبيعية بالعودة تدريجيا للمدينة.
أرجع أهالي الباب المشاكل الأخيرة للاحتقان المتزايد بالمدينة، الناتج عن خلل إدارة مؤسساتها، وانتشار الفساد فيها، مع فقد الثقة بالمسؤولين الموجودين، ومع كل فترة يخرج حراك شعبي يطالب بإصلاح وضع المدينة ومحاربة الفساد، وللآن لما تتحقق بعد المطالب الرئيسية لأهل المدينة من تفعيل آلية الانتخاب لاختيار رئيس مجلسها، ومن تغذية المدينة بالكهرباء والماء، ومن مكافحة المفسدين والمهربين المتسترين بعباءة الجيش الوطني، ومن تعويض أصحاب العقارات المتضررة أو المصادرة، وبدون علاج هذه المشاكل الجذرية المتراكمة فلا أحد يستطيع أن يتوقع حجم الانفجار الشعبي القادم.