عبد الله عتر |
الدعوة والعدالة والإيمان بالدين العالمي المُنزَّل.. ثلاث إستراتيجيات طرحتها سورة الشورى لمواجهة ثلاث مشاكل كبرى تعيق الشورى والإيمان، هي (الكبر، والبغي، والشلك)، كان هذا في الآية (15) من السورة: ((فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ)).
تحديد المشكلة والحل والوجهة
(فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ) شرح المفسرون كلمة (فلذلك) بأنها تعني أمرين:
الأول: تحديد الوجهة: ادعُ لذلك الدين الذي أوحيناه إليك وأوصينا به كبار الرسل، حيث تحدثت عنه الآيتان السابقتان بشكل مباشر: ((شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ)).
الآخر: تحديد المشكلة والحل: لأجل ذلك التفرق في الدين وأسبابه المتجسدة بالكبر والبغي والشك؛ فادعُ أنت إلى الإيمان وكن مستقيمًا ولا تتبع الهوى، وآمن بكل الوحي المنزل، وأقم العدل. نرى هنا أن الآيتين السابقتين حددتا المشكلة (التفرق في الدين) وجذورها الحقيقية (الكبر والبغي والشك)، ثم طُرح الحل الذي نواجه به تلك المشكلة.
الدعوة اتصال منفتح وموجَّه بالحقيقة.
الدعوة هي الإستراتيجية الأولى التي ستخترق الظلام والواقع الطافح بالسوء: (فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ). ركزت سورة الشورى من بدايتها على رسم طبيعة الدعوة الخاتمة أنها منفتحة وفاتحة؛ منفتحة تعترف برسالات الله إلى العالمين، وفاتحة لخطوط التواصل والتفاعل مع العالمين، وفاتحة لعصر ديني تشريعي جديد يمتد إلى نهاية العالم.
الأمر بالدعوة أمر بالمبادرة في كسر حواجز الصمت والخداع، وتغيير الأفكار والأحوال والوقائع لتكون أقرب للحقيقة الدينية المنزلة، أي أننا أمام انفتاح على العالم والدين.
الدعوة رسالة وفعل رسالي
تؤكد الآية (15) أن الدعوة هي الاتصال بالآخرين وحوارهم واستخدام الحجج الحقيقية، وهي في الوقت نفسه فعل شخصي واجتماعي يتبناه صاحبه في الحياة العملية، وهذا هو مغزى الاستقامة التي جاءت لصيقة بالدعوة: ((فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)).
الاستقامة أن تسير الحياة العملية “الشخصية والاجتماعية” في الخط نفسه الذي تسير فيه رسالة الدعوة، فإذا نظرنا من الأعلى إلى الواقع الفعلي ومضمون الدعوة التي نبلغها للناس نستطيع أن نراهما ضمن زاوية نظر مستقيمة.
أهم المخاطر التي قد تُبعِد الحياة العملية عن رسالة الدعوة هي اتباع الهوى، ولذلك استدركت الآية: ((فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ))، هذا الهوى الذي يتجسد في كثير من الأحيان بالكبر والبغي والشك المريب.
الدعوة تواجه ذئاب الشر
كيف تستطيع الدعوة -ضمن تلك المعايير والسمات- أن تواجه الذئاب الثلاثة؛ الكبر والبغي والشك؟
الدعوة تحمي صاحبها أولاً من الكبر؛ لأنها دعوة مغموسة بالتواضع للناس والحقيقة، ومبنية على التحكم في هوى النفس. وهي في الوقت نفسه أداة لمواجهة المستكبرين اجتماعيًا أو دينيًا أو سياسيًا أو عرقيًا، فأكثر ما يريده المستكبر أن يُسكت الناس أمامه وأن يجعلهم يسمعون كلامًا واحدًا، أما الدعوة فإنها تفتح العقول بالتفكير وتُطلق الألسنة بالكلام والخطاب، وتنشئ فضاءً يتحاور فيه الناس، ولن تكون تلك الدعوة منتجة ومفيدة إلا إذا اتضحت وجهتها، وقد شرحت سورة الشورى أن وجهة الدعوة هي “إقامة الدين المُنزَّل”.
في هذا السياق نفهم الحديث النبوي: ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)). الدعوة كلمة، والكلمة جهاد، لأنها تهدم عروش الجائرين والبغاة، وسيتجلى هذا المعنى أكثر في سورة الشورى حين تتنامى الآيات وتصل إلى آية ((وأمرهم شورى بينهم))، حيث تأتي قضية الدعوة بصيغ الجمع لا بصيغ المفرد، لتدل أن الدعوة والشورى التي تترك أثرها في مواجهة الظلم والكبر، تلك التي تكون بتضامن الجماعة لا بفعل الفرد، كما أشار لذلك الإمام البقاعي. بهذه الطريقة يتبين كيف تساهم الدعوة في مواجهة البغي والظلم.
أخيرًا.. فإن الدعوة وسيلة فعَّالة في إزالة الشك المريب؛ لأنها حوار واتصال وأخذ وردّ يكشف البقع المظلمة في وعينا بالدين والحقيقة، فإذا أردنا أن نواجه الشك الذي يجتاح العالم اليوم، خاصة بين الشباب، فعلينا أن نمارس الدعوة على أصولها، ونفتح لها كل الإمكانات والأدوات التي تساعد أن تبلغ العالمين وتقنع العالمين.