لا أدري كيف يملّون، كيف يصدّقون أنَّ ثورةً تنتهي ومازال الثائرون على قيد الحياة..، ومازالت وصاياها تنتقل فيما بينهم، يحملونها إلى الصغار الذين كبروا معها، إلى أبنائهم الذين ولدوا بالأمس، تكاغيهم ذكرياتها كأمانة عصيّة على النسيان.
لا أدري.. كيف لثائرٍ أن يشعر بالتعب، كيف له أن يركن لحياةٍ مثل تلك التي ثار عليها، كيف تُحطم الأقدار عزيمته، وكيف يمكن لكل خذلان الدنيا أن ينال من حلمه، وقد امتزج بثأر طويل.
لا يعلم من يراهن على هزيمة الثورة أنَّ فيها رجالاً قد يئست الدنيا من إرهاقهم،.. فكل يوم جديد بالنسبة إليهم هو بداية جديدة، ليس لها علاقة بكل ما قبلها، إلا بشحذ إصرارهم على المضي قدماً حتى تحقيق نصرهم،.. كل إشراقة نهار تعني أنَّ ما قبله مات وانتهى، وهم أحياء، فعليهم أن يعيشوا كما يليق بالحياة، كل خسارةٍ مرَّت هي دينٌ يوفَّى، وقد اقسموا على وفاء الديون كاملة، كل مدينة هُجروا منها هي عشق استقر في القلب عميقاً جداً، حيث لا يمكن لعدوٍ أن يصل إليه، ولا لرصاصة أن تقتلعه، ولا يمكن أن يحجبه خذلان أو تقتله خيانة.
لقد ثاروا وهم يعلمون أنَّ التكلفة قد تكون حياتهم، قد تكون أرواح أبنائهم وبناتهم، قد تكون دماء أصدقائهم وأحبابهم، ودمار بلادهم، وإنهاء مستقبلهم،.. لكنَّهم مؤمنون حدّ الجنون أنَّ الحريّة أجمل، والعدالة أثمن، والكرامة أغلى من حياة يرافقها الذل أو الاستسلام أو الراحة في رغد عيشٍ كبهائم في إسطبل مملوء بالجريمة يشبه هذا العالم الذي يسمِّن قطعانه، فإن شاء تركها، وإن شاء ذبحها.
لا يعلم من أتعبته الثورة أنَّ الحرية فاتنةٌ جداً، وأنَّ الثوَّار مغرمون، تشغفهم عينيها كلما لاحت من بعيد، فيعودون إلى الصرخة الأولى بمزيد من الإصرار، لا يضرهم من خذلهم حتى يتحقق الحلم أو يموتون على أعتابه المقدسة.
لا يغرنَّكم أنَّهم اليوم قد توقفوا لالتقاط أنفاسهم، لا تظنوا أنَّهم قد تعبوا، أو استسلموا على الرغم من كثرة جراحهم، ومن الدماء التي تغطي جباههم، والكسور التي تملأ أطرافهم، والدمار الذي حلَّ بتلك المدن التي يعشقون، إنّما للأجساد طاقة قد خبت بفعل القدر، وها هم يستعيدونها عمَّا قريب، فيكرون كرّةً تعيد الأمور لنصابها، والثورة لشبابها، والبلاد لأصحابها،.. لكنَّها سُنّة في الجراح، لابدّ لها من وقت كي تُشفى.
لقد علم هؤلاء أنَّ للسياسة مداخلا فدخلوها، وللقتال ساحات فملؤها، وللحرية عقولا فربوها، وللعدالة منارات فنصبوها، وللكرامة علامات فوَسموا وتوسّموا بها.
غداً سترونهم في كلِّ الميادين يزاحمونكم أينما وُجدتم، فثورة الشام حقٌ قد أدرك أهله حقّه عليهم فأدّوه، فهو قادم إليهم لا محالة، وإنّه لوعدٌ لا يتخلف عنه ثائر، ولا يتركه مجاهد، ولن ينساه قابض على جمر كرامته.
ولكنَّكم تستعجلون.
المدير العام | أحمد وديع العبسي