رغم انهيار جدار برلين في الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1989، إلا أنّ جدران سايكس-بيكو ظلت مستعصية على السقوط، أبناء ذاك الجيل الذي عاصر مشهد تحطيم الجدار قبل نحو ثلاثين عاماً افترض اقتراب انفراجةٍ وطفرةٍ قومية عربية جديدة؛ ستؤثر حتماً في الخريطة الجيوسياسية والاجتماعية والاقتصادية للدول العربية، لسوء الحظ ظلّت أمنياتهم في دائرة الأحلام المستحيلة، وبقي المحيط العربي منقسماً على نفسه.
مؤشرات انهيار جدار برلين لم تقرأه النخبة المثقفة بوضوح، ومن الطبيعي أن تكون قراءة العوام محدودة أو قاصرة على فهمٍ بسيط لمعنى تصدع جدار اﻹسمنت دون الخوض في دلالته المستقبلية والتاريخية أو الرمزية.
المشهد الذي تبع انهيار أنظمة أوروبا الشرقية “المجر، رومانيا، بلغاريا، تشيكوسلوفاكيا”، إبان سقوط جدار برلين بفترة زمنية قريبة، خلق قراءةً للواقع السياسي العالمي، يمكننا وصفه بأنّه، وﻻدة تاريخٍ جديد واضح الدلالة، كشفت هشاشة اﻷنظمة الديكتاتورية بالمجمل.
مضاجعة اﻷبدية العربية:
جدار برلين اﻹسمنتي المسلّح كرّس مفهوم “سرمدية اﻻنقسام” داخل القارّة اﻷوروبية، كان ذلك في حينها، واللغة العربية تؤكد أنّ “كان: فعلٌ ماضٍ ناقص”، كذلك الشعوب هناك أثبتت نقصانه.
بالمقابل؛ استقل المحيط العربي بسرمدية سايكس-بيكو التي حاربها على المنابر وضاجعها في العتمة، لتؤكد القيادات العربية أنها أنظمةٌ منيعةٌ وممتنعة عن التحطم.
ولعل خلفيات تلك اﻷنظمة يعطينا مدلوﻻت بقائها على قيد الحياة، لاسيما وأنها سخرت الخوف الفردي بين العائلة الواحدة حارساً، وبدل النهوض بالدولة نحو المدنية انتهجت المبدأ والفكر البوليسي نتاجاً واقعياً لوعيها بحقيقة وجودها باعتبارها الكيان التابع للاستخراب الغربي، أو الممثل الشرعي الفعلي لخريطة سايكس-بيكو.
مجرد كيانات قائمة على ترهيب الشعوب بالسياط والفقر، استخدمت الدين لترسيخ وجودها “حتى لو جلدوا ظهرك”، على سبيل المثال؛ ما جعل الشارع العربي يميل إلى اﻻعتقاد بديمومة الحال.
الشعوب تكسر اﻷبدية وتحطم الجدران:
تلك اﻷبدية، “أبدية الخوف، البقاء…”، انكسرت إلى حدٍّ ما مع شرارة البوعزيزي في تونس، وتلقفتها الشعوب المجاورة والبعيدة بالترحيب، ومن ثم العودة إلى الدائرة اﻷولى مع الأسف؛ السبب ليس انهزامية الشارع العربي أمام الواقع، بقدر ما هي رواسبُ وعيٍّ جمعي آمن بأنه يعيش داخل كياناتٍ قائمة بالخوف وعلى الخوف ارتكزت.
بعيداً عن حالة اليأس التي ما تزال تهيمن على الفكر العربي الشعبي، خاصةً بعد أن تحول ربيعهم إلى خريف، يمكننا استخلاص الكثير من تجربة سقوط جدار برلين، لنؤكد ألا سرمدية أو أبدية في الوجود السياسي.
وإن كانت الخلاصة التي وصلت إليها الشعوب العربية في ضوء غيابها عن تطورات المشهد السياسي دولياً جعلها تصدق بسرمدية الحاضر، وأبدية الانقسام، في حين يمكنها اليوم اكتشاف زيف تلك النظرية، ووضعها في خانة المتغير؛ وأنّ الثابت الوحيد هو إرادة التغيير الشعبي العادل.
اكسر صنمك!!
الوقائع تؤكد أنّ الشعوب تسير بشكل طبيعي مع حركة التاريخ، وإن وضعت بعض العقبات في طريقها، فلا يعني ذلك أنّ تتعطل فكرة التغيير أو تتوقف، وإﻻ لرأينا استسلاماً شعبياً لحكم اﻷسد في سورية كمثال؛ وكنتيجة منطقية لفهم دروس ثمانينات القرن الماضي أو ما يعرف بأحداث حماة.
تمكّن السوريون من كسر تمثال هُبل العصر “حافظ اﻷسد”، مع ما يمثله من رمزية “أبدية” لدى النظام، بدلالة إعادة نصبه مجدداً في المناطق التي استعاد السيطرة عليها؛ ما يعني أنه-حقيقةً-آمن بتلك “السرمدية اﻹلهية التي أسبغها على نفسه”.
عقلية نظام اﻷسد خلقت منهجية إسمنتية فكرية كان من المفترض صعوبة تحطيمها سريعاً، على عكس الحالة اﻷوروبية التي جعلت من جدار برلين حاجزاً مصطنعاً يفصل بين معسكرين.
كما أنّ القواعد التي بُنيت عليها معظم اﻷنظمة العربية بما فيها نظام اﻷسد قامت فوق جدران قمعٍ وإفساد مجتمعي ممنهج؛ خلق شرخاً داخل الأسرة الواحدة، إضافةً إلى تقويض الهوية الوطنية، تجلى ذلك عبر اﻻلتفاف عنها إلى التقوقع واﻻحتماء بالطائفة أو المكوّن العرقي.
تلك العقلية الإسمنتية المتحجرة، امتدت بوضوح لنرى رواسبها لدى الفصائل الثورية دون أن نستثني منها فريقاً، إﻻ التفاوت في طريقة وسلوك تلك المنهجية الجدارية بينهم.
“اكسر صنمك” .. لعل تلك العبارة التي يفترض أن ينادي بها الشارع السوري في المحرر وعلى طول الرقعة الجغرافية السورية؛ فالجميع دون استثناء يطوف حول صنمٍ ملعون يسمى “الفصائلية”، في حال انهياره تنكسر عقدة اﻷبدية، ويتحطم معها جدار برلين الثاني بالمحصلة.