عبد الله عتر |
إذا كانت مقاليد السموات والأرض بيد الله، فإن مقاليد الدين والتشريع واحدة من أبرز تلك المقاليد، حيث تعمّدت سورة الشورى أن تربط بين مقاليد الخليقة ومقاليد الشريعة، هكذا نفهم مغزى الانتقال بين الآيتين المتتابعتين: “لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ”.
ينتقل خطاب السورة من سياق كوني متعلق بالخليقة إلى سياق تشريعي عالمي متعلق بالدين والشريعة، ويأتي الخطاب مُوجَّهًا إلى كل رجل وامرأة في العالم يبلغه القرآن: “شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ”. حسنًا.. ما طبيعة الدين الذي شرعه لنا الله بحسب القرآن؟
جغرافية النص القرآني.. امتداد الزمان والمكان والأجيال
كان المتوقع أن يخبرنا القرآن الآن بالمضمون الديني ومعالمه الأساسية، لكنه مشى في طريق آخر، حيث راح يصف جغرافية النص الديني وآفاقه الزمنية والمكانية والمجتمعية بطريقة خاصة جدًا، فذكر أن المضمون الديني الذي شرعه لنا هو نفسه الذي شرعه لنوح ومجموعة من كبار الرسل، لندقق في الآية: “شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ”، هكذا خطفتنا الآية تركيزنا في فضاء الزمن الممتد، لتخبرنا أننا أمام الدين العالمي المشترك الذي بدأ مع نوح أول الرسل، وانتهى مع محمد خاتم الرسل، وقد تمت البرهنة في مقالة سابقة أن سورة الشورى تتناول بالدرجة الأولى المضمون الديني المشترك بين الرسالات المنزلة، أي أن عليكم -كما يشرح الإمام الرازي- أن تركزوا على المضمون الذي لم يتغير رغم تغير الأيام والأحوال والظروف. هذا الانتقاء للرسل الخمسة وترتيبهم بهذه الطريقة الخاصة يثير سؤالين: لماذا هؤلاء الخمسة تحديدًا؟ ولماذا ذكر نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، بعد نوح رغم أنه في التاريخ آخر الرسل؟
بين الرسالة الفاتحة والخاتمة.. أين هو آدم؟
لنبدأ مع آدم ونوح عليهما السلام، لماذا لم تبدأ الآية بذكر أول الأنبياء آدم؟ التقط المفسرون المغزى الديني المتعلق بطبيعة الدين نفسه وعناصره الرئيسة، فالوحي الذي كان مع آدم لم يكن فيه تشريعات كما هي معروفة في شرائع الرسل اللاحقة، بل كانت نبوة تشرح العقائد وأصول الأخلاق، وتقتصر على تنبيهات أولية حول ضرورات العيش ووظائف الحياة والبقاء حيث البشرية في مهدها، كما يؤكد ابن عطية وغيره.
تنامت الحياة الإنسانية خلال قرون متطاولة وتعقدت أكثر حتى بلغت مداها في عصر نوح، حينها أنزل الله أول تشريع ديني يحتوي تشريعات مفصَّلة إلى جانب العقائد والأخلاق الكلية، هذا التفصيل التشريعي الذي لا يكتفي بالأمور الكلية العامة هو الذي يجعل الدين رسالياً، فأول دين رسالي (أي: ذو أحكام وتشريعات وآداب عملية منظمة للحياة) كان مع نوح، لذلك فهو “أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض” كما صح الحديث. لهذا بدأت الآية بأول الرسالات “نوح” وعطفت عليها آخر الرسالات مع “محمد” عليهم السلام: “شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ”، كشف المفسرون عن هذا التصرف القرآني أنه يريد أن يخبرنا أن المضمون الرسالي المُنزَّل هنا هو نفسه من فاتحة الرسالات إلى خاتمتها.
لتأكيد ذلك أكملت الآية بذكر ثلاثة رسل كان لهم تاريخ مشهور وأثر كبير في المجتمعات، أما إبراهيم عليه السلام فهو أصل الحنيفية، وإليه ينتسب المسلمون واليهود والمسيحيون، وقد كانت بقايا الإبراهيمية بادية بين العرب، أما موسى عليه السلام فقد جاء بأوسع الأديان السابقة في تشريع الأحكام العملية، وأما عيسى عليه السلام فلأنه الدين الذي سبق دين الإسلام يحيي تشريعات موسى ويكملها كما جاء في القرآن والإنجيل، وكان له أتباع كثيرون منتشرون في العالم.
لماذا التأكيد على الطابع العالمي والتاريخي الممتد؟
لنتذكر الظروف التي نزلت فيها سورة الشورى، حيث الحصار مطبق على المسلمين بين جبال مكة الملتهبة، يريد القرآن أن يخبر المؤمنين أن الدين الذي جاء به محمد، صلى الله عليه وسلم، امتداد لتاريخ طويل ما يزال يتدفق ويتوارد عليه الرسل الكبار من أيام نوح، ولن توقفه أي قوة في الأرض، وليؤكد أيضًا انفتاح أفق الإيمان الإسلامي الذي يؤمن بكل الرسالات الدينية، وأنها ذات مضمون مشترك بالغ الأهمية يجب الالتفات إليه. وأخيراً.. فإنه يشير إلى أن جغرافية النص المُوحَى ستحدد طبيعة المضمون الديني وقيمه وتوجهاته الحاكمة، هو دين رسالي خاتم يطوي داخله الميراث الديني العالمي. وهذا موضوع المقالة القادمة.