ديانا دارك |
سلّط تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني الضوء على تفشي ظاهرة الفساد في أرجاء مدينة حلب بعد سيطرة قوات النظام عليها في ديسمبر/كانون الأول 2016، حيث يتسيّد المشهد هناك عصابات «الميليشيات المسلحة الموالية للرئيس بشار الأسد». ويُكِنُّ كثيرٌ من سكان حلب الكراهية لهذه العصابات، التي ينتمي غالبية عناصرها إلى الطائفة العلوية أو التركمان من مدينة ماردين التركية.
وأشار التقرير الذي كتبته ديانا دارك، الخبيرة في شؤون الثقافة في الشرق الأوسط، إلى أنه لا يبدو أنَّ نظام الأسد لديه الرغبة، أو القدرة، في السيطرة على هذه الميليشيات التي تستبيح كل شيء وتنهب ما تريد دون أي محاسبة أو مساءلة، إذ يغضّ الطرف بالكامل عن نهبهم لمنازل سكان المدينة.
وفي حديث للموقع البريطاني، قال أحد أهالي حلب، الذي طلب عدم الكشف عن هويته: «هناك تسلسل هرمي في توزيع الغنائم، إذ تُعطى أجهزة التلفزيون للقادة، في حين تُعطَى الثلاجات والغسالات للقيادات الوسطى، أما الأخشاب والأسلاك التي يتحصَّلون عليها من البيوت المهجورة فتذهب للرتب الدنيا. الأمر مقزز».
وأضاف: «نرى شاحنات مُحمَّلة بالأغراض المنهوبة تسير في وضح النهار. إذ لا يحتاجون لفعل ذلك في الخفاء، هذه هي مكافآت ولائهم. نحن نعيش في العصور الوسطى».
ودُمِّرَت مساحاتٌ بالكامل في مناطق شرق ووسط حلب من جرّاء غارات القصف الجوي السورية والروسية وشن فصائل المعارضة تفجيرات باستخدام القنابل الخارقة للتحصينات.
وبحسب رأي الكاتبة، يتحمَّل أطراف النزاع كافة المسؤولية عن الدمار الذي لحق بمدينة حلب، التي تُعَد مركز التجارة الرئيس في سوريا. ولم يَكفُل لها كونها مدينة مُدرَجة على لائحة مواقع التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) الحماية منذ أن طالتها الحرب السورية عام 2012، أي عقب اندلاعها في العاصمة دمشق بعامٍ واحد.
تشويه حضارة وتاريخ المدينة
تقول الكاتبة: قارن بين هذين المشهدين وفاضل بينهما: الأول في العاصمة الألمانية برلين، حيث يعَكَف فريقٌ من أمهر المعماريين السوريين برعاية متحف الفن الإسلامي على بناء سجل رقمي يوثق المعالم التاريخية في مدينة حلب السورية؛ وذلك للمساعدة في ترميمها مستقبلاً.
في حين يدور المشهد الآخر في حلب، حيث يُنسَب الفضل لعصابة من «السفاحين شبه الأُميين»، برعاية العميد سهيل الحسن، المشهور بلقب «النمر» -وهو زعيم الحرب السوري المفضل لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين- لترميمهم الأخرق والتعيس للمساجد القديمة ذاتها التي كان لهم بالأساس يد في تدميرها.
وفي الوقت الذي تشير فيه التقديرات إلى أنَّ ثلث رصيد سوريا من الوحدات السكنية دُمِّر خلال سنوات الحرب السبع، تشتعل المعركة الجديدة بين جيوش من خبراء الترميم المُحبَطين خارج سوريا، وجيوش النهَّابين الذين يعيثون فساداً على الأرض دون مساءلة.
وفي حلب، ترى لافتات جديدة مُعلَقة على واجهات المباني في المناطق «المُحررة» التي عادت إلى سيطرة النظام السوري، كُتِب عليها بلغةٍ عربية غير سليمة نحوياً: «سوا بترجع أحلى». ويَلُفّ هذا الشعار كثيرٌ من الغموض حول هوية مَن سيُعيد سوريا أجمل مما كانت سابقاً، وفي الوقت الراهن، مَن يدَّعون اضطلاعهم بهذا الدور هم مجموعة بغيضة من العصابات والشبّيحة الذين يُطلِقون على أنفسهم «رجال النمر».
غضّ الطرف يُضاعف فرص الفساد
كانت أحدث إنجازات هذه العصابات هي مسجد الأكحل، الذي يعود إنشاؤه إلى عام 1485 في حي الجديدة، وأصبح يكتسي الآن بملاط أخضر ساطع. ونُشِر مقطع فيديو على يوتيوب، يشيد بإنجازهم ويصفهم بـ»الأيادي البيضاء»، ربما في محاولة لإظهارهم في صورة ملائكية بريئة. وإلى جانب ذلك، أعادوا بناء مدرسة الفضيلة، ووضعوا لوحة هناك حرصاً منهم على أن تعرف الأجيال القادمة أنَّ هذا صنيعهم.
واليوم، لا تجري أية عمليات ترميم رسمية إلا في جامع حلب الكبير، وهو مشروع بارز يموّله رئيس الشيشان، أحد أصدقاء بوتين. وأُعِيد بالفعل ترميم غالبية الكنائس والكاتدرائيات الموجودة في المدينة، بفضل القساوسة والبطاركة المقربين من النظام السوري الذين يتمتعون بدوائر معارف واسعة. ووجدت أموالٌ من مانحين مسيحيين أثرياء طريقاً للتدفق إلى داخل سوريا بطريقةٍ ما، بالرغم من العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.
وشارك بعض مالكي المنازل مع العمالة المحلية لإصلاح الدمار الذي لحق بيوتهم عقب سقوط المدينة في يد النظام أواخر عام 2016، لكنَّ هياكل الدولة بدأت بعد ذلك في تأكيد وجود أنفسها. وفي هذا الصدد، قال أحد أهالي حلب: «الوضع الآن أسوأ مما كان عليه قبل الحرب. فعلى الأقل وقتها كانت هناك سلطة واحدة عليك الحصول على تصريحٍ منها. أما الآن، فهناك خمس منها، وكل واحدة ترغب في حصتها. ومن هنا، تضاعفت فرص الفساد».
وفَعَل سكان حلب كل ما بوسعهم عقب سقوط المدينة في 2016. إذ امتلأت شوارع حي الجديدة، الذي شكَّل الجبهة الأمامية في الصراع، بحطام وأنقاض من جرَّاء القصف الجوي والمتفجرات الخارقة للتحصينات. واجتهد المتطوعون في تنظيف شوارع الحي، في عمليةٍ سرعان ما نُسِبَ الفضل فيها إلى الحكومة.
وفي 28 سبتمبر/أيلول الماضي، نظَّمت الحكومة «يوماً عالمياً للسياحة في ساحة الحطب»، نقلت فعالياته قناة «الميادين» التلفزيونية الموالية للنظام السوري، وقناة حكومية روسية، وذلك حتى تُظهِر للعالم كيف عادت الحياة في حلب لطبيعتها بعد استعادة النظام السيطرة عليها. بيد أنَّ نهب مدينة تُمثِّل موطناً لثلاثة ملايين شخص يستغرق وقتاً طويلاً، وما دامت هناك فرصة للتربُّح من عمليات السلب غير المشروعة، سيستمر الوضع على ما هو عليه.
مئات الآثار المُدمَّرة في حلب ترزح تحت قسوة الشتاء
وفي ظل هذه الأجواء، لا مجال لترميم مئات الآثار المُدمَّرة في حلب. ويقف أهالي المدينة موقف المشاهد بينما تتلاشى ببطء المساجد، التي كانت فيما مضى بمثابة مراكز لمدينتهم، من أحيائهم.
وتُعَد شهور الشتاء هي الأقسى؛ إذ تُلحِق الأمطار دماراً شديداً بالمباني التي تعاني بالفعل حالة سيئة. فترى القباب المُتصدِّعة أو المُهدَّمة جزئياً تنهار بالكامل، لتتحول ما كانت عملية ترميم بسيطة أو غير مكلفة نسبياً إلى عملية باهظة يمكن أن يستغرق إتمامها سنوات.
ويكمن الخطر الأكبر هنا في أنَّ حالة هذه الأبنية قد تصبح أصعب أو أكثر تكلفة من أن يُعاد ترميمها؛ ببساطة لأنَّ يد الإهمال طالتها، وأصبحت إحدى ضحايا الجمود البيروقراطي الذي يزحف عبر جميع جوانب إعادة الإعمار في سوريا. وفي كثير من الحالات، يكون كل ما يحتاجه البناء هو أغطية بلاستيكية لتغطية السقف وعزله عن المياه، وهي عملية لن تستغرق سوى بضعة أيام ولا تُكَلِف إلا القليل.
لكنَّ الحكومة لا ترغب في أن تعيد المجتمعات بناء نفسها، بل تريدها أن تظل مُمزَّقة. إذ تسهل السيطرة على المجتمع المُحطَّم.
الآثار تنهب على يد «عصابات المافيا«
تضيف الكاتبة: لو كانت الحكومة تهتم حقاً بشعبها ومجتمعاتها لكانت شدَّدت الخناق على الشبّيحة وعصاباتهم التي تشبه المافيا، ولكانت وضعت رؤية لتمويل المشروعات الصغيرة، واستثمار التراث الثقافي لأغراض التنمية المستدامة، وتشجيع العمل وإعادة إحياء الصناعات اليدوية التقليدية.
فمن شأن هذا التراث المشترك أن يُرسِّخ لهُوية سورية قوية تتجاوز الاختلافات الدينية والعِرقية، ويصبح جزءاً من عملية مصالحة وطنية شاملة. ويمكن أيضاً أن يسهم في تمكين النساء السوريات، اللاتي فاقت نسبتهن الآن الرجال في أماكن العمل ووصلت إلى 4 إلى 1، ومساعدتهن في إعادة بناء أسس الدولة التي دُمِرَت.
وفي وقتٍ سابق من ديسمبر/كانون الأول الجاري، انتشرت تقارير على الإنترنت حول العثور على آثار منهوبة، تزن 2000 كيلوغرام، في منزل «النمر» بدمشق. هل هذه هي الطريقة التي ستعود بها سوريا أجمل مما كانت؟
يعجز فريق المعماريين السوريين في برلين -كما هو حال الجميع خارج سوريا، بمن فيهم منظمة اليونسكو- عن التدخل. فكل ما بوسعهم هو التمني والدعاء أن يكون هناك بقايا من التراث الثقافي السوري يمكن إنقاذه حين يحل اليوم الذي تستطيع في سوريا أخيراً أن تنتفع من السجل الرقمي الذي يجمعونه.