جاد الغيث |
كنت أتمنى أن يكون لي اسم يناديني به أبي وأمي، وربما لو كُتبت لي الحياة لكان لهذا الاسم أثر طيب بين الناس، وما يُدريكم فلربما كنت إنسانًا صالحًا أو عالمًا، وقد أكون كاتبًا مبدعًا… لكن كل ما أعرفه عن حياتي شهور عصيبة عشتها في رحم أمي، في رحم الخوف والقلق والرعب، عيناي مغمضتان لا يمكن أن أرى شيئًا، لكني طوال الوقت كنت مذعورًا، أسمع أصوات طائرات حربية تقصف، وتدمِّر كل شيء حولها، ترمي حممها بلا رحمة فوق رؤوس الناس الأبرياء، صغارًا وكبارًا.
كنت أحلم، وأنا في رحم أمي، بولادة ميسرة وحياة سعيدة، يرافقني صوت أبي يدعو الله: (يارب سلِّم، يارب سلِّم..)، وحين يشتد صوت الطائرة الحربية الروسية ويبدو أقرب، حينها يصلني صوت أمي عاليًا واضحًا، صوت فيه رعب واستغاثة ومناجاة: (يالله، يالله، يالله..) تدور أمي في كل أرجاء البيت بحثًا عن مكان أكثر أمنًا، تتعثر بشيء ما أمامها، تقع أرضًا، تنهض وتدور حول نفسها، ثم تجلس في زاوية الغرفة، تجلس متقوقعة على نفسها كما هو حالي في بطنها، لقد صار جسد أمي بكامله واقيًا لي من الشظايا التي قد تصل إلى بيتنا.
صاروخ روسي هوى من طائرة اسمها (سوخوي 24) بالقرب منَّا، وها أنا أسمع صوت زجاج يتحطم، وأشياء في المطبخ تسقط أرضًا، صوت مفزع ولحظات حرجة مرعبة تجعل الدم يجف في العروق، شعرت كأن يدًا انتزعتني من مكاني وأعادتني إليه، أو كأني كنت بين الغيوم وهبطت إلى الأرض فجأة، شعور مُميت عشته مع أمي.
تحاول الآن أمي أن تنهض من زاوية الغرفة مستعينة بيد أبي، يدها اليمنى على بطنها، تتحسس حركتي وتسأل في سرها هل أنا بخير؟!
ويدها اليسرى تتمسك بقوة بساعد أبي الذي يشدها إليه بما تبقى فيه من عزم، فتنهض أمي بسلام، وأنهض معها.
أبي يضم أمي إلى صدره قائلاً: “طولي بالك يا هبة، اصبري، قولي يالله، لا تخافي بُكرا بإذن الله رح نطلع من كرناز المهم سلامتك وسلامة الولد.”
كرناز بلدة في ريف مدينة حماة، كانت آمنة قبل شهور، لكنها اليوم مثوى للشهداء والجرحى ومكانًا دائمًا للقصف والرعب، ولأن حياتنا أنا وأمي وأخي هي الأغلى، ترك أبي كل شيء في (كرناز)، وبثيابهم التي عليهم فقط، نزحوا إلى (حاس) في ريف إدلب، سعيًا وراء أمان أكثر، وهناك كان أماننا الحقيقي بلقاء ربنا!
ففي ساعة محددة من اليوم الموعود الجمعة 16 / آب /2019، قصفت طائرة حربية روسية بلدة (حاس)، وارتقينا نحن الأربعة شهداء، أنا جنين حاس وأمي وأبي وأخي، كلنا شهداء.
اسمي لم يُكتب، كأن حروف اللغة العربية ضاقت به، اسمي لم يلفظ كأن أصوات العالم اختفت!
كل ما يعرفه الناس عني صورتي الملتقطة مع الحبل السري الذي لم ينقطع وأنا بين الأنقاض، وكلمتين: (جنين حاس) كأنهما اسم لي، ولكنه اسم لا يحمل اسمي!!
بعد ذلك كتبت وسائل الإعلام بكل حزن وأسف: “ولد وقتل جنين حاس في اللحظة نفسها التي قصفت فيها طائرة حربية روسية تجمعًا للنازحين الذين هربوا من مدفعية نظام الأسد وحمم طيرانه الحربي، هربوا بأرواحهم من ريف حماة، إلى ريف إدلب، لكن القصف لحق بهم وقتل 15 شهيدًا، بينهم أربعة أطفال وامرأتين، وأصيب 30 شخصًا بجروح، بينهم ثمانية أطفال.” انتهى الخبر، وانتهت مأساتي!!
بعد أيام ينشغل العالم بخبر آخر، قد يكون أكثر مأساوية، وبعد سنة قد يخطر ببال أحدهم أن ينشر عني شيئًا في الذكرى الأولى لاستشهادي، وبعد سنوات طويلة، على صفحة إلكترونية أو في كتاب مطبوع تقرأ الأجيال قصتي الشاهدة على إجرام وحشية نظام الأسد وإجرامه بحق الأبرياء من السوريين.