أ. عبد الله عتر |
تفتح سورة الشورى فصلاً جديدًا عنوانه: (حريات الاختيار)، فالله هو الحفيظ على الناس، يحفظ لهم حياتهم واختيارهم وكل أمورهم، وهو الذي يجازيهم لا غيره (الله حفيظ عليهم)، وإذا كان هو الحفيظ فإنه ليس لأحد أن يكون وكيلاً مُسلطًا على أحد حتى لو كان نبيًا “وما أنت عليهم بوكيل”، هذه هي الفكرة الجوهرية التي جاءت في الآية (6) من السورة.
نفي الوكالة الدينية
حرية الاختيار ونفي الوكالة على الناس.. هكذا وجَّه القرآن خطابه للرسول مباشرة: “ما أنت عليهم بوكيل”، والوكيل هو الذي يتصرف نيابة عن الآخر بتفويض منه، أي أنك يا رسول الله، لم يوكلك الله بالناس، أن تجبرهم على الإيمان أو على غير الإيمان؛ لأن “الله حفيظ” يحفظ لهم اختيارهم.
نفي الوكالة الدينية على الناس يعني ثلاثة أمور:
- نفي القدرة على إجبار الناس على الإيمان: فالإيمان جذوره في القلب، يمكن أن نملك القدرة على إجبارهم على النفاق، أما الإيمان فلا.
- نفي الحق في إجبار الناس على الإيمان: لأنهم مثلك متساوون في كونهم عبيدًا لله، فليس من العدل أن تفعل ذلك، وتساوي الحرية ينشأ من تساوي العبودية الذي ذكرته الآية (4).
- نفي الحق والقدرة على حساب الناس على الإيمان أو عدمه: فالله وحده هو الذي يحاسب الناس ويجازيهم يوم القيامة، وهو المعنى الذي تذكره الآية (7).
إن نفي الوكالة الدينية والدنيوية، هو الأرضية الصلبة التي تُؤسَّس عليها الحريات الدينية والاجتماعية والسياسية؛ لأنها تقرر في صلب المعتقد الديني أن الرسول لا يملك أن يجبر الناس على شيء، فكيف لغيره؟! كل إنسان، كل رجل، كل امرأة، وكيل على نفسه.
وإذا كان مطلع السورة يؤكد أكثر على نفي الوكالة الدينية، فإن خواتم السورة تؤكد نفي الوكالة الدنيوية السياسية أو الاجتماعية، حيث تذكر أن المؤمنين الأتقياء “أمرهم شورى بينهم”.
التوحيد يقتضي حريات متساوية
حريات الاختيار هذه تم بناؤها ومزجها بعقائد الإسلام الكبرى التي ذكرتها الآيات الخمسة الأولى، لعل أهمها عقيدتان:
الأولى-التوحيد: ذكرت الآية (4) بأن الملكية الأصلية والسلطة الأصلية لله وحده، وهذا يقتضي أن البشر متساوون فيهما، على أي أساس إذن سنقيم مجتمعات منظمة فيها قيادة وسلطة ونتملك أملاكًا متفاوتة حسب سعينا؟ يجب أن نفعل ذلك بطريقة تراعي حرية الاختيار، فعلى مستوى الملكية الاقتصادية ستشرع الملكية الخاصة، وعلى مستوى السلطة ستشرع الشورى، فالشورى هي ممارسة جماعية للحريات.
الثانية-مطالب العيش الكبرى: ذكرها المفسرون في تفسير الآية (5) بأنها: الهداية والمغفرة، والبقاء دون هلاك، وسعة العيش والرزق. فالاهتداء مبني أساسًا على وجود قدرة على اختيار الهداية، أما البقاء بدون أن نُفني بعضنا فلا يمكن وجوده في حالة التغالب والتقاتل، وأما الرزق وسعة العيش فإنها تحتاج إلى حرية اقتصادية كافية للكسب.
اِبدأ بحفظ حريتهم..
سأكشف لكم ما أخفيته حتى الآن، وهو آية حفظ حريات الاختيار ونفي الوكالة على الناس بدأت ببداية “والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم…”، لماذا أتت الآية في تقرير مبدأ عظيم كهذا في سياق الذين لم يؤمنوا؟
كأن الآية تهمس في قلوبنا: أول من ستحمي حريتهم يا رسول الله هم المخالفون لك في الدين، أول من ستلتزم بقيم الإسلام تجاههم هم الكافرون بك. هذا الأمر شرط لأن تكون رسولاً لكل العالمين، ولست رسولاً للمؤمنين فقط أو لأهل بلدك. (وهو ما ستصرح به الآية التالية أنه نذير لأم القرى ومن حولها). وإذا كان التسلط ممنوعًا في أمر الدين، فهو أولى منعًا في أمور الدنيا، فالله حفيظ عليها أيضًا، وقد فهم فقهاء المسلمون، كالإمام الدبوسي، هذا المعنى، فقالوا: “الآدمي لا يخلق إلا وهو حر مالكٌ لحقوقه”.