عبد الله عتر
كيف تساعدنا سورة الشورى في هكذا مسائل؟
- هل أمارس حريتي في تدخين السجائر ولو تدمرت الرئتان، أم أن الحرية هنا أن أشم رائحة الورود وأستنشق الهواء النقي؟
- هل أمارس حريتي حين أنفث دخان السجائر في أنف من حولي أم أنني أُعدُّ ظالمًا لهم معتديًا على حقوقهم في استنشاق هواء نقي؟
للوهلة الأولى يبدو السؤال الأول مختلفًا عن الثاني، فالضرر في الحالة الأولى مقتصر عليَّ، أما في الثاني فيمتد إلى غيري.. تأتي سورة الشورى لتخبرنا أن هذا المنطق للحريات ضعيف يحبس صاحبه في حياة ضيقة وخيارات محدودة رديئة، السؤال ليس عن القانون بقدر ما هو عن منطق الحياة نفسها، ووسط هذا التفكير تأتي سورة الشورى بثنائية الحريات والعدل، إنها تخبرنا أن الحريات تتسع بسعة العدل.
طريقان لممارسة الاختيار البشري
أتت سورة الشورى بقضية العدل والظلم ما يقرب من 12 مرة، ضمن سياقات مختلفة شديدة التنوع، الملفت للنظر أن أول طرح لها كان تعقيبًا على قضية الحريات والنتائج المترتبة عليها، فبعد الآية (6، 7) التي أكدت حرية الاختيار الديني، وأن اختيارات الإنسان تحدد النتائج المترتبة في نهاية المطاف، جاءت الآية (8) تقدم فكرة جوهرية، مفادها أن هناك طريقين لممارسة الاختيار البشري، اختيار موجه بالعدالة، واختيار منغمس بالظلم: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ).
المفسرون شرحوا أن الآية صيغت على أسلوب بياني “الاحتباك”، وهو أن تأتي بأمرين متقابلين وتصف الأول بصفات معينة تثبت للثاني ضدها، وتصف الثاني بصفات معينة تثبت للأول ضدها، وعليه يكون تحليل الآية: “وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ولكن يُدخل من يشاء في رحمته ومن يشاء في عذابه، فالذين يدخلون في رحمته هم العادلون حيث يكون الله مولاهم، والذين يدخلون عذابه هم الظالمون وما لهم من ولي ولا نصير”. فالآية تميز بوضوح بين الذين مارسوا حرية ملونة بالعدل وحرية ملونة بالظلم.
هذا أول طرح لقضية العدل في السورة، وآخر طرح لها كان عقب قضية الشورى، وأن الشأن العام يُدار بالتشاور العام.
عدل مع مَن؟
إذا كانت الحرية الناضجة حرية ملونة بالعدالة، فإن مفهوم العدل الذي أتت السورة به مفهوم واسع، فهو عدل مع النفس والناس، هذا المفهوم الواسع يسمح أن نربط الحرية بالعدل طوال الوقت، في أروقة القانون والسلطة، وفي أروقة الحياة اليومية والشخصية والاجتماعية.
العدل مع النفس أن ترعى مصالحها وحقوقها، حقوق الرئتين أن تعيش نظيفة، وحقوق الجسم أن يتمتع بالنظافة وألا ترهقه الأمراض بسبب السمنة، وحقوق الروح أن تتصل بخالقها، وحقوق العقل أن ينمو بالمعرفة والتعلم، هذه الثقافة شائعة في التفكير الاجتماعي الإسلامي كما عبَّر عنها الرسول صلة الله عليه وسلم: “إن لجسدك عليك حقًا، وإن لعينيك عليك حقًا، وإن لنفسك عليك حقًا”.
الحرية الشخصية موصولة بالعدالة
المُبتدِئ في ممارسة الحريات يفهم الحرية أنها عدم وجود قيود، وفعل ما تريد طالما لم تضر غيرك، هذه “الحرية السلبية” كافية لأن تبرر للمدخن أنه يدخن في مكان لا يضر به أحدًا، كأن يدخن في الحديقة أو الشارع مثلاً، وهي نفسها كافية أن تجعل طالب جامعة يمضي ساعات طوال في الألعاب الإلكترونية. من يريد أن يعيش حريته وفق منطق القانون بإمكانه أن يدمر حياته تمامًا وهو ملتزم بالقانون، لكن “الحرية الإيجابية” تخبره أن الحرية أن تكون عادلاً مع نفسك فتحقق مصالحها، أن تبذل وتتعب كي تبني مستقبلاً يليق بك، ما ينفعك إذا كانت الأبواب مفتحة لكنك عاجز عن المضي في أي طريق، لأنك كنت تتنعم بحرية سلبية تقنع بها نفسك؟! تكتشف هنا أن خياراتك أصحبت ضيقة جدًا.