عبد الله عتر |
روح العدالة تسري في الحريات .. كما تبيِّن سورة الشورى بهدوء، فقد ربطت السورة بين حرية الاختيار والعدل بشكل وثيق، وشرحت أن حُسن أو سوء الاختيارات يتعلق بمقدار العدل والوعي الذي تحمله في داخلك. (كما في المقالة السابقة).
ينعكس هذا الوعي بالحريات على مستويين:
الأول-الحياة الخاصة: حيث يكون الإنسان في حالة لا يُلزمه القانون بشيء، وهنا السؤال: أيسرف في الطعام أم يأكل باعتدال؟ أيختار الغضب ويسمح للخوف والقلق أن يسيطر عليه، أم يملك نفسه ويكون شجاعًا مطمئنًا؟ أيجلس في بيته ويشاهد فلمًا وثائقيًا مفيدًا، أم يُدمن على مشاهدة أفلام العنف والرعب وهو ينفث دخان السجائر ذات اليمين والشمال؟ في تلك الثنائيات تنصحنا سورة الشورى أن ننحاز للخيارات العادلة مع النفس، وأن تتلون حرياتك الشخصية بالعدالة، يعني أن تختار ما فيه مصالحك ونمو نفسك ومستقبلك في الدنيا والآخرة.
الثاني-الحياة العامة: حيث يكون الإنسان في المجال العام والعلاقة بالآخرين، من السهل جدًا هنا أن تنزلق بنا الحريات الباردة إلى صقيع يُجمّد التواصل والتناصح، وأن نجعلها سجونًا تحبسنا عن التعاون والروح الاجتماعية المتضامنة، وأن نجعلها أغلالاً تخنق جيراننا في الحارة أو البلد أو العالم من شدة الفقر والجوع والجهل.
الحرية والعدالة معًا..
تنظيم الحريات في الحياة العامة يحتاج أن يكون مُوجَّهًا بالعدالة، وهذا يعني أن تكون بطريقة تحفظ مصالح المجتمع الرئيسة ونموه ومستقبله، فالزكاة أو الضرائب مثلاً تقتطع جزءًا من حريتك المالية وتأخذه للفقير؛ لأن شيوع الفقر في المجتمع يؤذي العدالة الاجتماعية، هذا المنطق يحمي مجتمعاتنا من رأسمالية متوحشة وليبرالية جديدة.
وفق هذا المنطق ليست الحرية هي القيمة الوحيدة التي تستبد في فضاء القيم وترتيب الحياة والقانون، بل نجد قيمة العدالة متفاعلة معها على طول الخط. في زمن الكورونا فهمنا تمامًا ماذا يعني أن نعيش بعيدًا عن المجتمع الكبير، لكننا فهمنا أيضًا أن إلزامنا بوضع (الكمامة) من باب العدالة التي دخلت على حريتنا.
الحرية والعدالة.. حقوق المرأة
من الحقوق الأصلية لعقد الزواج أن المرأة تحصل على حق النفقة، وهو مقدار مالي يدفعه الزوج بشكل دائم يغطي مصاريف المعيشة اللائقة لزوجته. هناك نوعان من الأشخاص يُعارضون مثل هذا الحق؛ الأول يعارضه؛ لأنه يرى فيه عدم مساواة بين الزوجين، والآخر يعارضه؛ لأنه يرى فيه انتهاك لحرية الرجل في التصرف بماله.
ما هي الحكمة إذن من هذا الحكم؟ أحد مظاهر الحكمة العملية أن فرص العمل المأجور أمام النساء ماتزال عبر التاريخ البشري أقل بكثير من الرجال، لأسباب معقدة جدًا، هذا الواقع بحاجة معالجة لا يمكن إجراؤها بمنح مزيد من الحريات للطرفين، فالرجال والنساء يبدؤون السباق، إن صحَّ التعبير، على فرص العمل من مواقع متفاوتة وليس من خط البدء نفسه، لمعالجة ذلك التفاوت نحتاج إدخالَ عنصر جديد هو عنصر (العدل) الذي يفرض على الرجال أن يمارسوا حريتهم المالية تحت توجيه العدالة.
فإذا تمكنت المرأة من العمل الذي يكفيها سقط هذا الحق مؤقتًا طالما كانت تعمل، ويرى فريق آخر من الفقهاء أن هذا الحق لا يسقط مطلقًا.
الضمان الصحي الذي تقدمه الدولة، والتعليم المجاني أو شبه المجاني، أداتان مهمتان لجعل الحريات مُوجَّهة بالعدالة، فحرية التداوي من المرض، وحرية التعلم الأساسي، لا يمكن تحقيقهما بدون دعم الفئات التي لا تملك كلفة ذلك، أما الاكتفاء بالصياح أن حرية التعليم والتداوي مكفولة للجميع دون تمحيص للإمكانات الفعلية، فهو صياح في وادٍ فارغ.