يوسف تركي |
كثيرٌ من المتاعب حولنا تتهيَّأُ للانقضاض علينا دون أن نكترث لها، بل لربما نفتحُ الأذرع للاحتفاء بها. البصيرة التي ترصدُها حُورِبت باسم الذئبِ الذي يترصَّد القطعان؛ فلم يعد للبصيرة وجودٌ إلا ما ندر.
قد قيلَ: ” ليسَ هناك مرضٌ يفتك بالإنسان مثلَ التعصٌّب”
لا أعلم أين سمعتها قبلاً، غيرَ أنَّ ما أعلمه أنّها تركت تأثيراً داخليا. هذا التأثيرُ عظُم نبضه مرةً حين سمعت زميلةً في الجامعة تقول متهكِّمةً: ” ما هذا التخلُّف الذي أراه أمامي؟ على الأقل؛ إلى الآن! ” قالتها وإصبعها تهاجم فتاةً غيرَها قد لبستْ خِماراً على صورةٍ أمر بها الإسلام الكريم.
حزَّ في فؤادي هجومُها غيرُ المؤدَّب ذلك كجمرةٍ من لهيب، أردت تحذيرَها من تعصُّبها الأحمق الذي تتباهى به لكنَّ رغبتي هذه تلاشت إثرَ سماعي لقهقهات المعجبينَ من حولها بملاحَظتِها، حينها تابعت طريقي ولم أنطق ببنت شفة.
ساءلتُ نفسي لاحقاً: أليسَ الارتقاء المعرفيُّ يجعلنا نقدّر اختيارات الآخرين فيما يتعلَّق بحياتهم الخاصَّة؟ أليست كلُّ دساتير العالم تكفل للإنسان حريَّة حياته ما دامت لا تسبّب أذىً؟ فلماذا إذاً يريد بعضُنا أن يستعبدَ غيره؟
لو أنَّ تلك الزميلة تأنَّت في تصنيفاتها تلك واستذكرَت أنَّ الفرق ما بين حجاب تلك الفتاة وردائِها هيَ؛ هو مجرَّد فرْق في الحريَّة الآدميَّة؛ أما كانت لتجعلَ نفسَها في موضع أكثر لباقة كإنسانة؟ لكنَّها الرغبة في استعباد الآخرين عبر ازدرائهم.
إنَّ غياب استقامةِ القيم عن البعض جعلت ذواتهم تتضخَّم في عيونهم بشكل مخيف، حتَّى وصلوا إلى مرحلةٍ اعتبروا فيها أنفسَهم هي ميزان العقل والحكمة التي يقاس بها غيرهم. وبالتالي سوَّلت لهم أنفسهم الدخول في حريَّات الآخرين.
إذا كان الفرد العاديُّ الذي لا تتقاطع مصالحه المباشرة بمُصادَرَة التعصّب يفعل ذلك، فكيف بمن يتحكَّم في قوت العباد؟
مؤلمة جدّاً حالة التعصٌّب الاجتماعية التي تخنق الإنسان من كلّ مكان. لقد صارت الحريَّة تعني للعامَّة السَّيرَ ضمنَ القطيع خلف من ترضى عنه القيادة العليا، سواءٌ كان رجل دين أو ممثَّلاً أو حتَّى راقصةً ليليَّة. أمَّا كلُّ من يتمايز عن القطيع فنقطةً سوداء في نظرهم.
المشكلة هنا تكمن في ماهية من يقود ذلك الطريق، إذ لا عجبَ في كونِهمْ أراذل الناس. وهل يكونُ من باعَ حريَّة الآخرين لأجل مصالحه الذاتيَّة غيرَ ذلك؟ وأقتبس هنا عبارةً أكثرَ من رائعة لميخائيل زادورنوف يقول فيها: ” إذا ما استدار قطيع الأغنام ومشى في الاتجاه المعاكس فإنَّ الخِراف العرجاء هي التي ستقود مسيرة الطريق”
العامَّة مع الوقت ستسعد بتلك الحريَّة الجديدة وتُطبّل لها، فالفطرة حينَ تُستاق إلى ملهىً عبثيّ فإنَّ منطقاً مُحوَّراً سيجد لذَّة في حراسة تلك الفطرة التائهة، وسيؤدي الاستمرار في الخطأ إلى انحراف مسلَّمات القلب، حتى يغدو المعقول ليس بالمعقول والعكس بالعكس، وستقضي الأغنام وقتها في تقديس شخص القائد المفدَّى وتعداد إنجازاتِه الوهميَّة مهما كانت أفعالُه الشنعاء حاضرةً أمام ناظرهم.
قابليَّة الدخول في القطيع تنتج عن بذرة تسكن دواخلنا، هي بذرة التعصُّب الخبيثة. هذه البذرة إن لم يستجب لها الإنسان كطاغية فسيلبِّيها كعبدٍ لا إرادة له، يقدِّس سيّدَه ولا يرى في المخالِفينَ إلَّا جراثيم ينبغي أن تُباد.
في الختام يتوجَّب علينا أن نملك الإرادة، تلك الإرادة التي نستردُّ بها أحلامنا المسلوبة. علينا الجلوس إلى أنفسنا في لحظات هدوء، محاولينَ أن نكون أكثر تفهُّماً لغيرنا وأبعد ما يكون عن التعصُّب، حتَّى نكون بإذن الله تعالى فجرَ ثورتِنا الوليدة.