عبد الرزاق الشامي |
خلال ثماني سنواتٍ من الثورة السورية أتت الحرب على كل شيء، ولم تكن محطات المياه بمنأى عن هذا الدمار.
فالقصف العشوائي خلال السنوات الماضية أدى إلى تدمير البنى التحتية لمحطات المياه، فضلا عن انقطاع الكهرباء التي تسببت بحرمان كثير من القرى والبلدات من ضخ المياه عبر الشبكات الرئيسة، فلجأ السكان إلى طرق بديلة لتأمين احتياجاتهم من مياه الشرب إما عن طريق صهاريج المياه أو حفر آبارٍ خاصة.
ومع أن محافظة إدلب تفتقر إلى الموارد المائية التي يمكن الاعتماد عليها سواءً بمياه الشرب أو ري المحاصيل الزراعية، نرى أن ظاهرة حفر الآبار العشوائية منتشرة، فأينما وليت وجهك ترى حفارة تعمل، حيث لا تكاد تخلو قرية منها وربما حفارتين في آنٍ واحد! وباتت هذه الظاهرة تجارة أكثر منها ضرورة، حيث يعمد مالك أرضٍ ما إلى حفر بئرٍ في أرضه ليضاعف ثمنها أو في أحسن الظروف ليبيع المياه.
“حسن” عامل حفارة تحدث إلينا حول هذه الظاهرة بالقول: “الناس تلجأ لحفر الآبار لأنه لا يوجد مياه للشرب، والناس تشتري الماء عبر الصهاريج التي أصبحت مكلفة، فكيف نطلب من الناس ألا تحفر دون أن نؤمن لهم بديل؟!”
موارد إدلب المائية
يغذي حوض العاصي كلاً من محافظة إدلب وحماة وحمص، وهو مصنف ضمن الأحواض التي تعاني من الاستنزاف وجفاف بعض الينابيع التي تغذيها بسبب شح الأمطار، حالياً مصادر مياه الشرب في محافظة إدلب الآبار وهي غير كافية وتتعرض لاستنزاف حاد.
إحصائيات عن الآبار المرخصة وغير المرخصة
بحسب مديرية الموارد المائية في محافظة إدلب، تقسم الآبار إلى نوعين، آبار سطحية، ويبلغ عمقها 150متراً، وأخرى ارتوازية يتجاوز عمقها 150مترًا، وهي تصل إلى المياه تحت السطحية أو ما تسمى المياه الجوفية الإستراتيجية.
قبل الثورة كانت هناك إجراءات وقوانين صارمة بخصوص حفر الآبار للحد من استنزاف المياه الجوفية، إذ بلغ عدد الآبار المرخصة 11ألف بئرًا، وغير المرخصة 3500بئرًا.
خلال فترة الثورة، ولعدم وجود سلطة تنظم عمل حفر الآبار وفي ظل الفوضى، انتشر حفر الآبار غير المرخصة بشكل كبير جدًا، حيث لا توجد إحصائية دقيقة لدى المديرية لعدد تلك الآبار إلا أنه تجاوز10آلاف بئر غير مرخص.
ويعدُّ هذا الرقم كبيرًا جدًا بحسب تقدير الخبراء ومهندسي البيئة، ويشكل استنزافًا كبيرًا للمخزون المائي للأجيال القادمة.
مدير الموارد المائية في محافظة إدلب المهندس (أحمد رشواني) في حديث لصحيفة حبر نوه إلى خطورة هذه المخالفات قائلاً:
“حفر تلك الآبار سيؤدي إلى انخفاض بمنسوب المياه، إذ لا توجد لدينا قياسات دقيقة عن معدل انخفاض منسوب المياه الجوفية نتيجة الحفر، لكني أعتقد أنه قد يصل إلى بضعة أمتار سنوياً، وأمطار الشتاء لا تعوض الاستنزاف”
يضيف المهندس رشواني قائلاً: “عندما تشكلت مديرية الموارد المائية في الشهر العاشر لعام ٢٠١٨ أصدرنا تعاميم بضرورة عدم حفر أي بئر لحين الحصول على رخصة من مديريتنا، كما طلبنا من مالكي الحفارات ترخيص حفاراتهم لدينا، وتم تعميم ذلك على كل الجهات التابعة للحكومة.”
لكن للأسف استمر الحفر العشوائي ولم تقم السلطات بما يمنع هذه الظاهرة فاستمر غياب الرادع.
انقطاع مياه الشرب عن الشبكة هو السبب
يعزو سكان القرى والبلدات حفرهم للآبار إلى انقطاع مياه الشبكة عنهم، حيث لجأ كل مُقتدر إلى حفر بئر خاص به لتأمين احتياجاته من مياه الشرب.
(أبو خالد) أحد سكان قرية بليون في جيل الزاوية يقول: “منذ سنوات تفتقر قريتنا لمياه الشبكة، مما دفعنا لحفر آبار خاصة، نحن نسمع عن قرارات لمنع الحفر لكن لا يمكن تطبيقها. ليؤمنوا لنا مياه الشرب ونلتزم بعدها بهذه القرارات.”
قبل الثورة قامت مؤسسة المياه بتنفيذ مشروع مياه شرب ضخم كان من المقرر أن يؤمن مياه الشرب لأكثر من ٧٠% من سكان المحافظة، وهو مشروع نبع (عين الزرقا) الذي يبلغ تصريفه ٥.٥ م٣/ثا، لكن تم سرقة وتخريب معظم محطات الضخ لذلك المشروع المؤلف من ٥ محطات ضخ ممتدة من عين الزرقا حتى خان شيخون، والمعرة، وأبو الظهور، وأريحا، ومدينة إدلب، وسراقب، ومعرة مصرين، وكفر تخاريم، وحارم.
حالياً يقسم الشمال المحرر إلى قسمين، الأول مدعوم من المنظمات، وهي منظمة Goal آخذة على عاتقها 57محطة بتكلفة تقديرية شهرية 500 ألف دولار شهرياً وهي وحدات دركوش، حارم، سلقين، إدلب المدينة.
والآخر هو القسم الجنوبي، ويوجد فيه خط توتر يُستفاد منه بتغذية محطات خان شيخون، والهبيط، وسجنة، والشيخ مصطفى، حتى وصل خط التوتر مؤخراً إلى محطة سفوهن بجبل الزاوية، حيث يتم ضخ المياه من خلاله.
ومن ناحية أخرى نجد أن جبل الزاوية يغذيه مشروع (اللج) وهو خارج الخدمة، حيث يتألف من ٥ محطات لكنها بحاجة إلى إعادة تأهيل خاصة المحطة رقم 5.
هذه المحطات قدرتها تغذية 35 قرية وتحقق اكتفاء الجبل بالكامل، إلا أنها تعرضت للقصف ودُمرت، وتم رفع طلب للمنظمات لدعم إعادة تأهيلها ولم يكن هناك استجابة، (بحسب مؤسسة المياه).
ظاهرة أخطر من ظاهرة حفر الآبار
يلجأ بعض السكان إلى تسليط مياه الصرف الصحي على بئر تم حفره بعمق 50مترًا تقريباً مع عدم وجود عائق أسفل البئر حتى لا يمتلئ بهذه المياه التي تتسرب عبر الثغرات إلى المياه الجوفية، ويلجأ السكان إلى هذه الطريقة لأن كلفة حفر البئر أقل من كلفة إنشاء حفرة فنية فضلاً عن تنظيف الحفرة الفنية بين الحين والآخر.
مدير الخدمات في جبل الزاوية الأستاذ (عبد الفتاح الخليل) أكد وجود هذه الظاهرة لكن بشكل محدود، وأنهم يتعاملون بصرامة معها، حيث يتم اتخاذ إجراءات عاجلة وسريعة بحق المخالف.
وأصدرت تعاميم بمنع استخدام الآبار لأغراض الصرف الصحي؛ لأنها خطيرة جداً، فهنا لا نتحدث عن استنزاف للمياه الجوفية إنما تلويثها بشكل كامل في حال استفحال هذه الظاهرة، ما يؤدي إلى انتشار الأوبئة والأمراض.
يؤكد (الخليل) أن قرى جبل الزاوية يوجد فيها صرف صحي، لكنه قديم ولا يغطي كافة القرى، الأمر الذي يدفع السكان للقيام بمثل هذه التجاوزات، ويضيف أنهم رفعوا دراسات لعدة منظمات لتأهيل الصرف الصحي وتوسعته ليشمل كافة القرى، لكن لم يتلقوا أي ردود.
المهندس (محمد الفضل) أخصائي في البيئة، أكد لنا على خطورة هذه الظاهرة المرعبة مضيفًا: “هذه ظاهرة بالفعل مرعبة ومدمرة، فأنت هنا تتحدث عن مستقبل مهدد بالخطر يهدد حياة ملايين الناس، ويجب وضع حدٍّ صارم لهذه التصرفات غير المسؤولة”
مشاريع محلية للحدِّ من هذه الظاهرة
توجهنا لقرى جبل الزاوية واطلعنا على هذه المشاريع، منها مشروع حفر بئر ارتوازي في قرية (بليون) بغية تأمين مياه الشرب لسكان القرية، زرنا المجلس المحلي واطلعنا على تفاصيل هذا المشروع، حيث إن البئر يتم حفره بعمق أقصاه 650مترًا، وسيتم في المرحلة الأولى إنشاء منهل ماء لحين الانتهاء من إصلاح الأعطال بالشبكة وإسالة الماء عبرها.
مدير إدارة الخدمات في فرع جبل الزاوية (عبد الفتاح الخليل) قال: “هذا المشروع يقام تحت إشرافنا بعد تعذر تأهيل مشروع محطات (اللج) التي تغذي قرى الجبل، وعند الانتهاء من مشروع قرية (بليون) سيتم الانتقال إلى قرية أخرى، الأمر الذي سينعكس إيجاباً على ظاهرة حفر الآبار ووضع حد لها وإيقاف انتشارها.
على وقع الأخطار المحدقة بالموارد المائية في محافظة إدلب التي تهدد الأمن المائي وحياة ملايين الناس، هناك الكثير من التسيب والجهل الذي بات يحتاج الحزم والصرامة من أجل ضمان مستقبل أجيالنا، فهل يا ترى ننجح بذلك؟