علاء عبد الرزاق المحمود |
أبو العز الديرانيّ، أو كما ينادونه “حفّار القبور” ابن الخمسة والعشرين ربيعاً، صاحب الوجه البشوش مع كلّ ذلك الكم من الموت الذي يُحيط به، وُلد وترعرع في داريا، وحين بلغ أشدّه وأينعت ثماره جاءت الحرب لتقطفها الواحدة تلو الأخرى وتُسلب منه حلمه الدراسي وكلّ ما يملك؛ لتهبه الموت، وتُلقي به في غياهب المقبرة، حفّاراً للقبور ومُوارياً للجثث في الثرى، ومسؤولاً عن كلّ شهيدٍ أو قتيل، سواءً كان طفلاً أو امرأة، أو حتى شيخاً كبيراً، بالإضافة إلى ذلك، القتلى من العسكريين الأحرار.
يُتابع أبو العزّ مُستجمعاً كلّ قواه التي خارت فور عودته إلى ما قبل عام 2016 حيث كان ما يزال يعيش بين شواهد القبور: “التحقت بصفوف الثورة فور اندلاعها في داريا، حاولت أن أكون ضمن صفوف المقاتلين، لكنّ أبا صياح الديراني، أخذ بيدي إلى المقبرة، وألزمني العمل معه، حيث أخبرني أنني سأقدِّم الكثير الكثير في ظلّ تهرب الجميع، كان أبو صياح القبَّار جارنا العزيز، وصديقاً لكل أهل الحيّ، صغارهم وكبارهم. بدأت رحلتي بين الموتى منذ ذلك الحين، ولم أبلغ من العمر حينها سوى 16 عاماً.
بدأ النظام المجرم باستهداف الناس العزل، وبدأت تكثر الجراحات في صفوف المعارضة، وبدأ عدد القتلى يزداد، مما دعانا لتنظيم المقبرة وفق مخطط هندسيّ، حيث يمكننا ترقيم القبور ومنح كلّ شهيد رقما وعلامةً، ليسهل التعرف عليه فيما بعد.
لم تكن الحرب قاسيةً وموحشةً ومرعبةً، كما كانت المقبرة في بداية ذلك، أتذكر جيداً الشهيد الأول الذي حضرت دفنه ” نذير” رجلٌ من مدينةٍ مجاورةٍ، لم نستطع إيصاله إلى أهله، فقررنا دفنه هنا في مقبرة داريا، أتذكر ذلك الرعب الذي خيّم وسط صدري، وارتجفت يداي من هوله، انتهينا من الدفن ليلاً، وهرع كلّ منّا إلى مخبأه، أمّا أنا فبتّ أرى نذير ماثلاً أمامي، في كل حركاتي وسكناتي، وعانيت قليلاً من بعض الكوابيس التي زادت أرقي وأفسدت نومي.
فيما بعد، اعتدت الأمر، وأصبحت” التربة” المقبرة بيتي الأول، وملاذي الأخير، حيث اتخذت من طرفها مسكناً لي، علّه يسهل إيجادي في كلّ وقتٍ وحين، واعتاد على ذلك أصحابي، حيث أصبحنا كلّما ضاقت بنا الأرض، نطلب القبور وأصحابها، مستأنسين بهم، نقرأ أسماءهم وأرقامهم، ونسرد أحلى الذكريات التي جمعتنا بهم.”
يقول أبو سعيد الشامي صديق أبي العز: “أبو العز شاب طيبٌ وشهمٌ ومقدام، اعتدنا المزاح معه في كلّ وقت نراه قد أقبل به، نسأله: من ستأخذ اليوم؟ فيضحك ويجيب: من سيدفنني غداً، هل سأجد حفاراً ماهراً؟ نمضي الوقت معه بجوار المقبرة، وأحيانًا نتفقد القبور، نسقي بعضها، ونرمم بعضها الآخر، أصبح الأمر روتينيّاً دون خوفٍ أو وجلٍ، بعد أن أجزعنا صمت الموتى في البدايات.”
يتنهد أبو العز، ويبتسم ابتسامة تُخفي وراءها الكثير من الألم، ثم يكمل شابكاً أصابع يديه: “بعد اعتقال (أبي صياح) أثناء تهريبه للعلاج، وُكّل أمر الدفن لي، وتوثيق الشهداء، حيث كنت مسؤولاً عن كلّ ما تحتاجه المقبرة من مواد بناء، وشواهد لكتابة الأسماء، وصخور وما إلى هنالك، بالإضافة إلى ذلك، التوثيق، حيث أحصيت في دفتري الملازم لي أكثر من 1200 شهيداً، دفنت منهم أكثر من 500 شهيدٍ، كلّ منهم له سجله الخاص، يحتوي اسمه، ورقم قبره، وأغراضه التي وجدناها بحوزته، وهنالك أيضاً صورٌ خاصةٌ به وتسجيلٌ مرئيٌّ، وإلى الآن هنالك من يتواصل معي عبر وسائل التواصل الاجتماعيّة؛ لأخبره عن شهيدٍ يخصّه ويطلب مني أن أُرسل إليه صوره الأخيرة.
لم يكن العمل سهلاً أبداً، والضغط النفسيّ رهيب جداً، وأصعب اللحظات تلك التي تضعك أمام ذوي الشهيد، تسأل نفسك، كيف أخبرهم بذلك؟ ثم ما تلبث أن ترى دموعك تنهمر كلّما رأيت أمّاً أو أباً بجوار ابنه، يودعه إلى التراب، لا يمكنه سوى البكاء والدعاء، لكنّني ما لبثت طويلاً بذلك، فقد جفّت دموعي بعدما تجاوز عدد الذين دفنتهم العشرات، وأصبح هذا الأمر اعتياديّا عندي، حيث كنت أدفن باليوم الواحد ما يصل إلى ثلاثين جثةً، مع أنّني بعض الأحيان أحاول البكاء لأطمئن على ذاتي البشريّة وروحي التي تتوسد وسط جنبيّ.
من المواقف التي تضحكك وترعبك بذات الوقت، ذات مرةٍ، كنّا ندفن رجلاً قد بلغ الأربعين أو أكثر، وحينما أنزلناه المقبرة وبدأنا بتوسيده الثرى، صدر صوت من أقصى صدره، جحظت العيون، وبلغت القلوب الحناجر، ودبّ الرعب في قلوب الحاضرين، كان الوقت ليلاً، ولم نكن نستخدم الأضواء خوفاً من الاستهداف الذي كنّا نعاني منه طوال الوقت، أسرعنا بعد أن استوعبنا الموقف إلى المشفى، فحصه الطبيب الموجود، أكّد لنا وفاته منذ زمن، وأنّ هذا الصوت لا يمكن تفسيره سوى بتيار هواء.
وتتوالى المواقف كلّ يومٍ، مع كلّ شهيد قصةٌ وحكايةٌ، ومن المواقف التي تُدمي القلوب، الشاب الذي دفناه على عجلٍ، وحينما فرغنا من ذلك، جاء أهله، توسلوا كثيراً، وبكت أمه حتى ابتل ثوبها؛ لنفتح لها القبر وترى وجهه، حاولنا إقناعها والعدول عن ذلك، لكنها أبت الرحيل، وصراخ أخواته يملأ المكان، لم أجد مهرباً من ذلك سوى بالرضوخ لمطلبهم، أزحت طبقات التراب المتكدسة فوق جثته الطاهرة حتى بان وجهه، تقدمت أمه بخطوات تكاد تكون للوراء، بكت فوق لحيته، لثمته وقبلته، ثم رفعت رأسها ودعت له وانصرفت.
في بداية عام 2014 تقريباً كما أذكر، تم تشكيل الدفاع المدني في داريا، وتفاجأت أنّ اسمي بين عناصر الخوذ البيضاء، أخبروني بذلك فوراً، والتحقت بهم حفّاراً للقبور ومسؤولاً عن ملف الشهداء وتوثيقه في داريا، بالإضافة إلى مساعدتي لهم، وبعد خروجنا من داريا في منتصف سنة 2016 التحقت بصفوف الخوذ البيضاء في إدلب، لم أستطع أن أترك هذا العمل وهذا شرف أن أكون يداً تُزيل ركام الحرب فوق أجساد الناس، ما زلت إلى الآن قادراً على تقديم المزيد، وأودّ ذلك.
والآن بعد ثلاث سنوات من خروجنا في تلك الباصات الخضراء اللعينة السوداء بحقيقتها، أفضل حصار داريا وجوعها وبردها على هذا الحال الذي وصلنا إليه، ما زلت أتذكر لحظة الوداع الأخير، الكلّ يودع الجدران، يودع الشوارع والطرقات، إلا أنا أودع المقابر، أودع أصدقائي الذين دفنتهم، أودع تلك الوجوه الطيبة، أجريت بعض التعديلات على المقبرة من طمس معالم القبور وإزالة أسماء الشهداء على الشواهد، ومضيت أدراجي، كانت المقبرة بيتي ومهربي من صخب الحرب إلى الهدوء والراحة.”
بعد أقل من عشرة أيام، سيتزوج أبو العز، بالرغم من كلّ ما مرّ به، إنه مصر على ذلك، فقد اختار فتاة من حيّه الذي عاش به هُجرت معه إلى إدلب، وهي ذاتها التي كانت تسمع عن صغر سنه وعن مهمته التي يعجز عنها الكثيرون، وكانت تناديه كما يناديه الجميع “حفّار القبور”