في الريف عموماً تطفو على السطح ظاهرة الكرم وحسن الضيافة.
أول ما اختبرت ذلك منذ سنوات طويلة مضت، يومها كنت مدرساً في قرية بعيدة تسمى (عطشانة شرقية) وكنت في السنة الثانية أدرس الحقوق في جامعة حلب،
وفي أحد الأيام تأخرت في الوصول إلى الحافلة الأخيرة التي كانت تمرُّ قريباً من القرية النائية.
اليوم التالي كان الجمعة، ولذلك سرت مسافة تقارب الساعتين على أمل الوصول إلى حافلة أخرى تمرُّ من قرية مأهولة بالسكان أكثر تسمى (برده).
هناك انتظرت لساعتين إضافيتين حتى اقترب موعد غروب الشمس، ويئست من الإفطار مع عائلتي التي تنتظرني في حلب! مع اليأس لاحت ابتسامة من رجل اقترب مني مسلِّماً، لم أكن أعرف عنه شيئاً، واقترح استضافتي في بيته، حيث إنَّه قَّدر بأني غريب وقد اقترب موعد أذان المغرب ونحن في شهر رمضان، ولعلَّه أحبَّ أن يُكتب له أجر إفطار صائم، وكانت دعوته لي بمثابة إنقاذ لي من المبيت في الطريق.
قرأت في وجهه خيراً وحفظت اسمه بمجرد أن سمعته، وما زلت أدعو له بالخير كلما تذكرت (عويد العويد).
لم أنسَ تفاصيل تلك الزيارة مع أنَّه مرَّ عليها ما يزيد عن عشرة أعوام، كان البيت ريفياً بسيطاً محاطاً بأشجار الزيتون وليس فيه سوى طفل واحد أظنه (حسين) في الصف الأول أو الثاني، وقد سررت وأنا أسمع منه بعض الأناشيد وأرى رسومه وكلماته الأولى التي كتبها على دفتر الوظائف ذي اللون الأزرق.
تناولنا طعاماً شهياً وبالغ عويد في إكرامي، وما زال طعم اللبن الطازج يثير شهيتي حتى اللحظة بعد عطش وتعب طوال النهار.
حكاية كرم قديمة تفاصيلها حاضرة في ذاكرتي، تذكرني دائما بكرم أمي مع ضيوفها ومع أصدقائي، فقد كان معيباً أن يخرج أحد من أصدقائي من بيتنا دون طعام خاصة إذا كانت رائحة (الكبة المقلية).
كان أصدقائي المقربين يطلبون (كبة أمي) ويشتهونها بين حين وآخر، وكانت تدعوهم إلى تناولها وإن لم أكن موجوداً في البيت! كرم أمي وأبي ورضاهما صار لي قدراً جميلاً يرافقني أينما حللت متنقلاً بين أرياف حلب وإدلب، وفي كل بيت أدخله يأتيني رزقي من طعام أحبه وأشتهيه.
أنا المحروم من طبخ أمي ودفء عائلتي منذ الصيحة الأولى للحرية في بلدي الأروع سورية.
كانت أمي تغص لجيراننا من أبناء الريف الذين جاؤوا إلى مدينتي حلب ليكملوا تعليمهم الجامعي، فتحمِّلني بأطباق الطعام الشهية الساخنة إليهم.
وكما يقول المثل: (الي بتحطوا بالدست بيطلع بالمغرفة) اليوم أغرف من كرم أصدقائي الذين يدعونني باستمرار إلى موائدهم العامرة الطيبة، وتحلو لقاءاتي بهم كلما اجتمعنا سوية على طبق الملوخية، أكلتي المفضلة.
آخر لقاء جمعني بالملوخية كان في بيت كله بركات، وبصحبة أفضل الأصدقاء ممَّن كانوا لي أخوة في غربتي، وبهم أشدُّ أزري وأمضي في درب ثورتي.